حقوق الأولاد

يُمكن إيجاز حق الولد على والديه بما يأتي : أولاً : حق الولد في الاسم الحَسَن : للبعض أسماء جميلة ، تحمل معاني سامية ، وتولد مشاعر جَميلة ، فَتجذبك للشخص المسمَّى بها كما يجذبُ شَذَا الأزهار النحل ، وللبَعض الآخر أسْماء سَمِجة ، مفرغة من أي مَضْمون ، وتحسّ عند سماعها بِالضيقِ والاشمئزاز ، وما أعظم التأثير النفسي والاجتماعي للاسم الذي نطلقه على أطفالنا . فكم من الأولادِ قد أرَّق اسمه البشع ليله ، وقضَّ مضجعه ، نتيجة الاستهزاء والازدراء الذي يلاقيه من مجتمعه ، فيتملكه إحساس بالمرارة والتعاسة من اسمه الذي أصبح قدراً مفروضاً عليه ، كالوشم على الجلد تصعب إزالته . وهناك بالطبع نفوس قوية لم تسمح لسحابة الاسم السوداء أن تنغص حياتها ، فعملت على تغيير اسمها السيئ ، واستأصلته كما يستأصل الجرَّاح الماهر خلية السرطان . ولم يهمل الإسلام كدينٍ يقود عملية تغيير حضارية كبرى شأن الاسم ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقوم بتغيير الأسماء القبيحة ، أو الأسماء التي تتنافى مع عقيدة التوحيد ، واعتبر من حقّ الولد على والده أن يختار له الاسم المقبول . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : (( إنَّ أوَّل مَا ينحلُ أحَدكُم وَلده الاسْم الحَسَن فَلْيحْسِن أحدكُم اسْم ولدِهِ )) . وقد بيَّن ( صلى الله عليه وآله ) في حديث آخر الأبعاد الأخرويَّة المترتبة على الاسم ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) :  ((اسْتَحسِنُوا أسْمَاءكُم ، فإنَّكم تُدْعَونَ بِهَا يَومَ القِيَامَة: قُم يا فُلان ابن فُلان إلى نُورِك ، وقُم يا فلان ابن فلان لا نُورَ لَك )) . إنّ علم النفس قد اكتشف - أخيراً - علاقة وثيقة بين الإنسان واسمه ولقبه ، ويضرب عُلماء النفس لنا - مثلاً - رجلاً اسمه ( صعب ) ، فإنّ دوام انصباب هذه التسمية في سمعه ووعيه ، يطبع عقله الباطن بطابعه ، ويسم أخلاقه وسلوكه بالصعوبة . وذلك لا ريب هو سِرّ تغيير الرسول أسماء بعض الناس ، الذين كانت أسماؤهم من هذا القبيل ، فقد أبدل باسم ( حرب ) اسماً آخر هو ( سمح ) ، فهناك - إذن - وحي مستمر توحيه أسمائنا ويلوِّن إلى حَدٍّ كبير طباعنا . فالاسم ليس مجرَّد لفظ يكتب بالمداد على شهادة الميلاد ، بل هو حقّ طبيعي للمولود ، يعيِّن هويته ، وتتفتح نفسه الغَضَّة على مضمونه البديع ، كما تتفتح براعم الزهور في الربيع . ثانياً : حق التأديب والتعليم : لا شكَّ أنّ السنوات الأولى من عمر الطفل هي أهمّ مراحل حياته ، ومن هذا المنطلق يؤكّد علماء التربية على ضَرورة الاهتمام الزائد بالطفل ، وأهمية تأديبه بالآداب الحسنة . فقال الإمام علي ( عليه السلام ) مبيِّناً أهميَّة الأدب وأرجحيَّته على غيره : (( خَيْرُ مَا وَرَّثَ الآبَاءُ الأبْنَاءَ الأدَبَ )) . وسَلَّط حفيده الإمام الصادق ( عليه السلام ) أضواء معرفية أقوى ، فكشَفَ عن العِلَّة الكامنة وراء تفضيل الأدب على المال ، بقوله ( عليه السلام ) : (( إنَّ خَيرَ مَا وَرَّث الآبَاءُ لأبنائِهِم الأدَبَ لا المَال ، فإنَّ المالَ يَذهَبُ والأدَبُ يَبْقَى )) . وينبغي الإشارة إلى أنّ موضوع ( أدب الأطفال ) قد احتلَّ مساحة واسعة من أحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فنجد تأكيداً على المبادرة إلى تأديب الأحداث قبل أن تقسو قلوبهم ، ويصلب عودهم ، لأنّ الطفل كورقة بيضاء تقبل كل الخطوط والرسوم التي تنتقش عليها . فيقول الإمام علي لولده الإمام الحسن ( عليهما السلام ) : (( إنَّمَا قَلْبُ الحَدَث كالأرْضِ الخَالِيَة ، ما أُلقِيَ فِيهَا مِنْ شَيءٍ قَبلتْهُ ، فَبَادَرْتُكَ بالأدَبِ قَبلَ أن يَقسُو قَلبُكَ ، ويَشْتَغلُ لُبُّكَ )) . ويمكن إبراز الخطوط الأساسية لمدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) في بيان تأديب الطفل وتعليمه في النقاط التالية : الأولى : لا تقتصر تربية الأولاد على الأبوين فحسب ، بل هي مسؤولية اجتماعية تقع أيضاً على عاتق جميع أفراد المجتمع ، وحول هذه النقطة بالذات يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) : (( أيُّما ناشئ نشأ في قوم ثمَّ لم يؤدَّب على مَعْصِيَة ، فإنَّ الله عَزَّ وجَلَّ أول ما يعاقِبُهُم فيهِ أنْ يُنقِصَ مِنْ أرْزَاقِهِم )) . فرؤية أهل البيت ( عليهم السلام ) تنطوي على ضرورة تأديبِ أفراد المُجتَمع - وخصوصاً الأحداث منهم - على الطاعة ، وتميل إلى أنّ المسؤولية في ذلك لا تُنَاط بالوالدين فحسب ، وإن كان دورُهم أساسيّاً ، وإنّما تَتَّسع دائرتها لتشمل الجميع ، فالسنة الاجتماعية بطبيعتها تنطبق على الجميع بدون استثناء . الثانية : من الضروري مراعاة عمر الطفل ، فلكلِّ عمر سياسة تربوية خاصة ، فمدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) سبقت المدارس التربوية المعاصرة بالأخذ بمبدأ ( التدرُّج ) ، وهو مبدأ اِلتَزَمَتْ به المناهج التربوية المعاصرة ، بعد أن أثبتت التجارب العملية فائدته وجدواه . وهنا يبدو من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنّ الأئمة ( عليهم السلام ) يتبنُّون بصورة عامة تقسيماً ثُلاثياً لحياة الطفل ، ففي كلّ مرحلة من المراحل الثلاث ، يحتاج الطفل لرعاية خاصة من قبل الأبوين ، وأدب وتعليم خاص . واستقرأنا ذلك من الأحاديث الواردة في هذا المجال ، وكشاهد على تبنِّيهم التقسيم الثلاثي نورد هذه الرواية : قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : (( دَع ابْنَكَ يَلعَبُ سَبْع سِنين ، ويُؤدَّبُ سَبع سِنين ، وألزِمْه نفسَكَ سَبْع سِنين ، فأن أفلح ، وإلاَّ فإنَّه لا خَيرَ فِيه )) . فالمرحلة الأولى هي مرحلة لعب ، والثانية مرحلة أدب ، والثالثة مرحلة تبني مباشر للطفل ، وملازمته كَظِلِّه . الثالثة : ينبغي عدم الإسراف في تَدليل الطفل ، واتِّباع أسلوبٍ تربويٍّ يعتمد على مبدأ الثواب والعقاب ، كما يحذِّر أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) من الأدب عند الغضب . فيقول الإمام علي ( عليه السلام ) : (( لا أدَبَ مَع غَضَبٍ )) . وذلك لأنّ الغضب حالة تحرِّك العاطفة ولا ترشد العقل ، ولا تعطي العملية التربوية ثمارها المطلوبة ، بل تستحق هذه العملية ما تستحقه الأمراض المزمنة من الصبر ، والأناة ، وبراعة المعالجة . فالطفل يحتاج إلى استشارة عقلية متواصلة لكي يدرك عواقب أفعاله ، وهي لا تتحقق - عادة - عند الغضب الذي يحصل من فوران العاطفة وتأججها ، وبدون الاستشارة العقلية المتواصلة لا تحقق العملية أهدافها المَرجوَّة ، فتكون كالطَّرقِ على الحديد وهو بَارد . وهناك حقٌّ آخر للطفل مكمِل لحقِّه في اكتساب الأدب ، ألاَ وهو حق التعليم ، فالعلم كالأدب وراثة كريمة ، يحثّ أهل البيت ( عليهم السلام ) الآباء على توريثه لأبنائهم ، فالعِلم كنز ثمين لا ينفذ ، أمّا المال فمن الممكن أن يتلف أو يسرق ، وبالتالي فهو عرضة للضياع ، ومن هذا المنطلق يقول الإمام علي ( عليه السلام ) : (( لا كَنْزَ أنْفَع مِن العِلْمِ )) . ولمّا كان العلم في الصغر كالنقش على الحجر ، يتوجب استغلال فترة الطفولة لكسب العلم أفضل استغلال ، وفق برامج علمية تتبع مبدأ الأولوية ، أو تقديم الأهم على المهم ، خصوصاً ونحن في زمن يشهد ثورة علمية ومعرفية هائلة ، وفي عصر هو عصر السرعة والتخصص . ولقد أعطى أهل البيت ( عليهم السلام ) لتعلم القرآن أولوية خاصة ، وكذلك تعلم مسائل الحلال والحرام ، ذلك العلم الذي يمكنه من أن يكون مسلماً يؤدي فرائض الله المطلوبة منه . وللتدليل على ذلك نجد أنّ من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن ( عليهما السلام ) : (( اِبتدأتُك بِتَعليمِ كِتَاب اللهِ عزَّ وَجَلَّ وتأويلِه ، وشَرائِعِ الإسلامِ وأحْكَامِه ، وحَلالِهِ وحَرامِه ، لا أجَاوزُ ذَلكَ بِكَ إلى غَيره )) . وزيادة على ضرورة تعليم الأطفال العلوم الدينيَّة من قرآن وفقه ، تركّز السنّة النبوية المعطَّرة على أهميَّة تعلم الطفل لعلوم حياتية معيَّنة ، كالكتابة ، والسباحة ، والرمي . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : (( حَقُّ الوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ أن يُعلِّمَه الكِتَابة ، والسِّبَاحَة ، والرِّمَايَة ، وأنْ لا يَرزُقَه إلاَّ طَيِّباً )) . وهناك نقطة جوهرية كانت مثار اهتمام الأئمة ( عليهم السلام ) ، وهي ضرورة تحصين عُقول الناشئة من الاتجاهات والتيَّارات الفكرية المنحرفة من خِلال تعليمهم علوم أهل البيت ( عليهم السلام ) واطِّلاعِهم على أحاديثهم ، وما تَتضمَّنه من بحرٍ زاخر بالعلوم والمعارف . وحول هذه النقطة بالذات ، يقول الإمام علي ( عليه السلام ) : (( عَلِّمُوا صِبْيَانَكم من عِلْمِنَا ما يَنفَعُهم الله بِه لا تغلبُ عَلَيهم المرجِئة برأيها )) . حقُّ العدلِ والمُسَاواة : إنَّ النظرة التمييزية للأطفال - وخصوصاً بين الذكر والأنثى - تزرعُ بذور الشقاق بين الأشقَّاء ، وتحفر الأخاديد العميقة في مجرى العلاقة الأخوية بينهما . فالطفلُ ذو نفسيَّة حسَّاسة ، ومشاعره مرهفة ، فعندما يحسُّ أن والده يهتم كثيراً بأخيه سوف يطفح صدره بالحقد عليه . وقد يحدث أنّ أحد الوالدين أو كليهما يحب أحد أولاده ، أو يعطف عليه - لسبب ما - أكثر من أخوته ، وهذا أمر طبيعي وغريزي ، ولكن إظهار ذلك أمام الأخوة ، وإيثار الوالدين للمحبوب بالاهتمام والهدايا أكثر من أخوته ، سوف يؤدي إلى تعميق مشاعر الحزن والأسى لدى الآخرين ، ويفرز مستقبلاً عاقبته قد تكون وخيمة . وعليه فالتزام العدالة والمساواة بين الأولاد يكون أشبه بمانعة الصواعق ، إذ تحيل العدالة والمساواة من حصول أدنى شرخ في العلاقة بين أفراد الأسرة ، وإلاّ فسوف تكون عاملاً مشجعاً لانطلاق مشاعر الغِيرة والحقد فيما بينهم . وهناك عدّة شواهد من السنّة النبوية تعطي وصايا ذهبية للوالدين في هذا المجال ، وتكشف عن الحقوق المتبادلة بين الجانبين ، حيث يلزم الوالد من الحقوق لولده ما يلزم الولد من الحقوق لوالده . فيقول ( صلى الله عليه وآله ) : (( إنَّ لَهُم عليك مِنَ الحَقِّ أن تعدِلَ بينَهُم ، كما أنَّ لكَ عَليهِم مِنَ الحَقِّ أنْ يبرُّوكَ )) . وأيضاً يقول ( صلى الله عليه وآله ) : (( اعدِلُوا بَين أولادِكُم في النِّحَل - أي : العطاء - كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البِرِّ واللُّطف )) . فهنا نجد نظرة أرحب وأعمق للحق ، فكما أنّ للأبّ حقّ البر ، عليه بالمقابل حقَّ العدالة ، فالحقوق يجب أن تكون مُتبادَلة ، وكل يتوجب عليه الإيفاء بالتزاماته . ويمكن التدليل على عمق النظرة النبوية من قوله ( صلى الله عليه وآله ) : (( إنَّ اللهَ تَعالى يُحِبُّ أن تَعدِلوا بَينَ أولادِكُم حَتَّى في القُبَلِ )) . صحيح أنّ القاعدة العامة في الإسلام تجاه الأبوين هي قاعدة الإحسان لا قاعدة العدل ، فلا يسوغ للابن أن يقول : إنّ أبي لا يعطيني فأنا لا أعطيه ، أو : إنّه لا يحترمني فلا أحترمه ، ذلك أنّ الأبّ هو السبب في منح الحياة للولد ، وهو أصله . ولكنّ الصحيح أيضاً هو أن يتَّبِع الآباء مبدأ العدل والمساواة في تعاملهم مع أبنائهم ، ليس فقط في الأمور المعنوية من إعطاء الحنان والعطف والتقبيل ، بل أيضا في الأمور المادية في العطية . فقد أوصى النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) الآباء بقوله : (( سَاوُوا بَين أولادِكُم فِي العَطِيَّة ، فَلو كُنْتُ مُفضِّلاً أحَداً لَفَضَّلتُ النِّسَاء )) .  

(غصون سعد الساعدي)