أدلة الشريعة اللفظية ومعرفة المقاصد الشرعية

إن الكلام لم يكن في لغة من لغات البشر,ولا كان نوع من أنواعه وأساليبه في اللغة الواحدة,بالذي يكفي في الدلالة على مراد اللافظ دلالة لاتحتمل شكاً في مقصده من لفظه,أعني الدلالة المعبرعنها بالنص الذي يفيد معنى لا يحتمل غيره.(ولكن تتفاوت دلالة ألفاظ اللغات ودلالة انواع كلام اللغة الواحدة تفاوتاً في تطرق الاحتمال الى المراد بذلك الكلام,فبعض انواع الكلام يتطرق إليه احتمال أكثر مما يتطرق الى بعض آخر,وبعض المتكلمين اقدرعلى نصب العلامات في كلامه على مراده منه من بعض آخر.ومن هنا وصف بعض المتكلمين بالفصاحة والبلاغة). على أن حظ السامعين للكلام في مقدار الاستفادة منه متفاوت أيضاً بحسب تفاوت أذهانهم وممارستهم لأساليب لغة ذلك الكلام,ولأساليب صنف المتكلم بذلك الكلام. وبذلك لم يستغن المتكلمون والسامعون عن أن تحف بالكلام ملامح من سياق الكلام,ومقام الخطاب,ومبينات من البساط,لتتظافر تلك الأشياء الحافة بالكلام على إزالة احتمالات كانت تعرض للسامع في مراد المتكلم من كلامه.ولذلك تجد الكلام الذي شافه به المتكلم سامعيه أوضح دلالة على مراده من الكلام الذي بلغه عنه مبلغ,وتجد الكلام المكتوب أكثر احتمالات من الكلام المبلغ بلفظه,بله المشافه به,لفقده دلالة السياق وملامح المتكلم والمبلغ,وإن كان هو أضبط من جهة انتفاء التحريف والسهو والتصرف في التعبير عن المعنى عند سوء الفهم. ومن هنا يقصر بعض العلماء ويتوحل في خضخاض من الأغلاط حين يقتصر في استنباط احكام الشريعة على اعتصار الألفاظ ويوجه رأيه الى اللفظ مقتنعاً به,فلا يزال يقلبه ويحلله ويأمل أن يستخرج لبه,ويهمل الاستعانة بما يحف بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق.وإن أدق مقام في الدلالة وأحوجه الى الاستعانة عليها مقام التشريع. وفي هذا العمل تتفاوت مراتب الفقهاء,وترى جميعهم لم يستغنوا عن استقصاء تصرفات الرسول (ص) ولاعن استنباط العلل,وكانوا في عصر التابعين وتابعيهم يشدون الرحال الى المدينة ليتبصروا من آثار الرسول (ص) وأعماله وعمل الصحابة ومن صحبهم من التابعين :هناك يتبين لهم ما يدفع عنهم احتمالات كثيرة في دلالات الألفاظ,ويتضح لهم ما يستنبط من العلل تبعاً لمعرفة الحكم والمقاصد. وفي هذا المقام ظهر تقصير الظاهرية وبعض المحدثين المقتصرين في التفقه على الأخبار.(وظهر بطلان ما روي عن الشافعي من أنه قال:"إذا صح الحديث عن رسول الله فهو مذهبي",إذ مثل هذا لايصدر عن عالم مجتهد. وشواهد أقوال الشافعي في مذهبه تقضي بأن هذا الكلام مكذوب أو محرف عليه,إلا أن يكون أراد من الصحة تمام الدلالة وسلم من المعارضة.وحينئذ يكون قوله هذا يؤؤل الى معنى :إذا رأيتم مذهبي فاعلموا أنه الحديث الصحيح.وكذا ما نقله الشاطبي في الاعتصام عن أحمد ابن حنبل من أنه قال:"إن الحديث الضعيف خير من القياس".وهذا لا يستقيم لأنه إن كان به ما في القياس من احتمال الخطأ,فإن في الحديث الضعيف احتمال الكذب,وهذا احتمال له أثر أقوى في زوال الثقة بالحديث الضعف من أثر احتمال الخطأ في القياس,فنجزم أن أحمد بن حنبل قد حرف عليه هذا القول). ولله در البخاري إذ ترجم في كتاب الاعتصام من صحيحه بقوله: باب ما ذكر النبي (ص) وحض على اتفاق أهل العلم,وما أجمع عليه الحرمان: مكة والمدينة,وماكان بهما من مشاهد النبي (ص) والمهاجرين والأنصار ومصلى النبي والمنبر والقبر,ثم أخرج حديث عاصم قال: قلت لأنس بن مالك :ابلغك أن النبي قال :"لاحلف في الإسلام؟",قال انس :"قد حالف النبي بين قريش والأنصار في داري التي بالمدينة",يشير الى إبطال الحديث المروي عن أم سلمة وعن جبير بن مطعم وعن ابن عباس.وفيه ما يحرر مقدار الاعتبار بمذاهب الصحابة فيما طريقه النقل والعمل,فقد كانوا يسألون رسول الله إذا عرضت لهم الاحتمالات,وكانوا يشاهدون من الأحوال ما يبصرهم بمقصد الشارع.

المصدر:مقاصد الشريعة الاسلامية.

الشيخ محمد الطاهر بن عاشور