الأسس المنطقية للاستقراء . . وإشكالية الحداثة
الأسس المنطقية للاستقراء . . وإشكالية الحداثة
0 Vote
135 View
سألت الشهيد محمد باقر الصدر يوماً ، وكنت لم أتجاوز بعدُ العقد الثاني من عمري ، قلت له سيدنا : هل لديكم بحث حول الوجودية ؟ فأجابني بلهجة توحي بعدم الاهتمام ! : أنّ هناك مقالات متناثرة نُشرت في بعض الإصدارات ، من دون أن يذكر اسمها ، فسألته عن بواعث عدم الاهتمام هذا ؟ فقال : إنّ الوجودية لا تمتلك صورة برهان ، أي ـ والكلام لي ـ لم تطرح فكرها عبر نظام نظري محدّد المعالم . حفظت هذا الحوار ، بقيت أعيد قراءته باستمرار ... أستلهمه ... أبحث عن جوهره ، وأنا أتأمّل مدارس الفكر المعاصر ، واستنطقه وأنا اقرأ الكل التأريخي لتطوّر المعرفة الحديثة ، بدءاً بـ بيكون ، ودافيد هيوم ، وعمانوئيل كنت ، ومرورا بـ راسل وفلاسفة الوجودية وانتهاء بمذاهب التفكيك واتجاهات التأويلية . الوجودية علي اختلاف مشارب ومصادر روّادها تمثل في جوهرها انفلاتا من الأُطر التي أفرزتها العقلائية وانقلاباً علي النزعة النظرية الشاملة في دراسة الوجود . الوجوديون بصيروراتهم المتنوّعة ، سواء المؤمنون علي طريقة كريغارد أو جبريل مارسل أو كارل ياسبرز ، أم الهائمون على طريقة سارتر وهيدجر ، يرتلون جميعاً مزمار الانفلات من وضع الوجود الإنساني في قفص الأطر الماهوية الجاهزة . هذا الانفلات الذي يؤسّس للتفتيت المعرفي ، فالفوضى المعرفية حيث الخلاص من قهر سلطان العقل ، والتحلل من آخر مقدّسات عصر الأنوار . في هذا الضوء نكون قد أرخنا لعصر ما بعد الحداثة ( معرفياً على الأقل ) ، وتكون الوجودية طليعة هذا العصر الذي يخوض الغرب الراهن في سياقاته . وبهذا التحديد التأريخي المرن نكون قد استبقنا التعريف بعنوان ملتقانا ( الأسس المنطقية للاستقراء وإشكاليات الحداثة ) ، أجل ! فالأسس المنطقية للاستقراء ، والحداثة ، وإشكالياتها ، مشكلات تستدعي الإيضاح والتعريف . ما الحداثة ؟ وما إشكالياتها ، وما علاقة أطروحة الأسس المنطقية للاستقراء بإشكاليات الحداثة ؟ ... ـ إذا اعتمدنا ( آلان تورين ) في تعريف الحداثة ، نكون قد رسمنا لها ثلاث سمات : غياب الإلوهية ، وإزالة السحر عن العالم ، والنظرة الفرويدية للجنس . أمّا إذا اتكأنا على ( جارس بيدرك ) ، فسوف تكون سمات الحداثة الرئيسية متمثّلة : بسلطة العقل وهيمنة النظام ، وسلطة العِلم . وقد ينطلق آخرون من نمط الإنتاج في مراحل تطوّر الرأسمالية ومن مستوي التقنية لتحديد معالم الحداثة . لكنّنا قد نجد توافقا على أنّ الحداثة الغربية ارتبطت معرفياً بالنظرة التجريبية المادّية ، التي يراها غالبية المتابعين الأساس في تطوّر التقنية وتطوير أنماط الإنتاج الرأسمالي . أما إشكاليات الحداثة ، فيمكن أن تُقرأ على طريقة ( آلان تورين ) ومن داخل النظام الرأسمالي الغربي ومنظوماته المعرفية والأخلاقية ، ومن المؤكّد أنّ هذه القراءة ليست من نصيب أحد من أبناء الشرق ، ولا هي القراءة التي اعتمدها أستاذنا الشهيد الصدر في درسه الفلسفي . وقد ينظر إلى إشكاليات الحداثة من الخارج ومن موقع المراقب المعرفي ـ المغاير ـ بالضرورة لموقع ( آلان تورين ) وغيره من مفكّري الغرب ، وقراءة السيد محمد باقر الصدر نموذج لهذه النظرة ، لكنّه نموذج متميّز كما سنأتي علي وصفه وتحليله عامة ، وقد وقع اختياره ، في جلّ بحوثه ، على الدخول في جدل خصيب مع القاعدة المعرفية وإشكاليات المذهب التجريبي في تجلّياته المتنوّعة . نبقي بحاجة إلى إيضاح رسالة الأسس المنطقية للاستقراء ، والهموم التي ساقت صاحبه لولوج هذا الميدان المعرفي الشائك : الاستقراء أحجية العصور ، عالج أرسطو مشكلته الكبرى بإرجاعه إلى مثاله المنطقي ( القياس ) اعتمادا علي البديهيات ( متكآت أرسطو ) ، ليُدخل التجريبيات في مبادئ نظرية البرهان العتيدة . وبقيت معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء تسيطر علي الفكر البشري زمانا لم يدانه أيّ من أزمنة حياة نظريات أرسطو في الفلسفة والمنطق . إذ لم يطرأ علي هذه المعالجة في تاريخ فكر البشر أي تعديل أو تطوير ، بل بقيت كما هي حتى عصر النهضة الأوروبية الحديثة . وحينما أفاقت أوروبا من سباتها الطويل أبان العصر الوسيط ، وجد العقل الأوروبي في أرسطو خصما وجبت منازلته ، لاحَقَ الغرب الحديث أرسطو في ميتافيزقياه وفي فيزيائه ، وفي منطقه ، وانهالت الضربات علي نظرية البرهان الأرسطية وأسسها الفلسفية والمنطقية ، وكان حظ الاستقراء من الطعن كبيراًَ . لم يرتضِ المذهب التجريبي الحديث معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء بعد أن جفا محظيات أرسطو العتيدة ، بل رآها ـ أي البديهيات ـ دعاوى لا تعود إلى أمر محصّل . مال المذهب التجريبي في نهاية القرن التاسع عشر وفي العقود الأولى من القرن العشرين إلى الاعتماد في معالجة مشكلة الاستقراء علي معطيات حلقة ( فينا ) وما دار في فلكها من حكماء ، حيث امتدوا عبر ( الفرد آير ، وكارناب ) إلى أرجاء من أوروبا وأميركا . استقر الرأي علي معالجة الفجوة بين الأمثلة الجزئية المستقرأة والنتيجة الكلّية التي يفضي إليها الاستقراء الناقص ، من خلال الإيمان باحتمالية المعرفة التجريبية ، ومن خلال نظرية في الاحتمال تستوعب الحساب الرياضي بقواعده الأساسية ، ومن خلال الإيمان بحاجة الاستقراء ، إلى المصادرة على قانون العلّية الذي هو جوهر مشكلة الاستقراء . لقد تركت معالجة مشكلة الاستقراء في العصر الحديث تراثاً ثرياً كان على الأسس المنطقية للاستقراء معاينته ونقده ، إلى جانب القطيعة التي حصلت بين الميتافيزيقيا ومنهج العلم وبين الإيمان اليقيني والمعرفة التجريبية ، بل المعرفة عامة في فكر الغرب الحديث ، حيث كانت ( فتوى) ( عمانوئيل كنت ) بشأن عجز العقل النظري عن تأسيس قواعد الميتافيزيقيا فتوى لها قوافل من المقلّدين . ورد السيد الصدر هذا الميدان بتراثه الثري ليَصدُر بمعالجات مصيرية وخطيرة في تأريخ المعرفة الإنسانية ، نحاول أن نشير إلى منعطفات تأريخية في ما طرحه أستاذنا الفقيد رضوان الله عليه : لنبدأ من إشكالية اليقين في المعرفة ، فاليقين في المعرفة الإنسانية أزمة مركزية في كلّ مراحل هذه المعرفة ، فهل صحيح ما قاله المعرّي: أَمّا اليَقينُ فَلا يَقينَ وَإِنَّما = أَقصى اِعتقادي أَن أَظُنَّ وَأُحدِسا أم الصحيح ما قاله أرسطو : أنّ العلم هو : اليقين الذي لا يزول . وما سواه جدلٌ وظنون خارجة عن دائرة العلم . أشرت إلى أنّ أرسطو عالج أزمة اليقين في المعرفة التجريبية من خلال رد أداة التجريب ( الاستقراء ) إلى قياس منطقي ببركة الكبرى البديهية المزعومة : ( الأكثري والدائمي لا يكون صدفة ) . ومِن ثمّ أدخل التجريبات في أسوار مملكة البرهان وجعلها من المبادئ . لكن مدرسة أرسطو أدركت بحسّها الفلسفي الفارق الجوهري بين أحكام المنطق المدعومة بمبدأ استحالة النقيضين ويقينها الذي لا يزول ، وبين أحكام التجريبات التي لا يأتي اليقين فيها إلاّ مشروطاً بثبات الظروف العامة ومن ثمّ لا تأييد في يقينها ولا استحالة في طروّ الاستثناء على أحكامها . أمّا اليقين في حكمة الغرب الحديثة ، فقد أفل نجمه ، وأضحى اليقين الإيماني بحكم تعاليم عمانوئيل كنت ، أمراً لا يطلب إلاّ من خلال مصادرات العقل العملي ، حيث عجز العقل النظري عن تأسيس البرهان علي الوجود الأزلي الأوّل عند ( كنت ) واليقين في ظلّ المذهب التجريبي أمسى أمراً دونه خرط القتاد ، بل المعرفة العلمية بأسرها لا تتعدّى الاحتمال . من المعرفة التجريبية انطلق ( الأسس المنطقية للاستقراء ) فاختار بحق الاجتهاد الاتجاه الذاهب إلى خَطل معالجة أرسطو باعتماد بديهية الدائمي والأكثري لا يكون صدفة ، واتّجه إلى تفسير الدليل الاستقرائي علي قاعدة نظرية في الاحتمال ، سنأتي علي وصفها ، إلاّ أنّ الاحتمال عند السيد محمد باقر الصدر لا يمثّل نهاية رحلة المعرفة ، بل طَرح نظرية جديدة تقرّر : أنّ العلم واليقين يمكن أن ينجبه الدليل الاستقرائي ، وأنّ اليقينيّات المعرفية لا تنحصر باليقين القياسي . في هذا الضوء طرح مزاوجة بين منهج العلم ومنهج الإيمان ؛ حيث أنّ الاستقراء الذي عدّته حكمة الغرب الحديثة الأنموذج الأعلى لتأييد وإثبات قوانين العلوم هو نفسه منهج الإيمان ، هذا المنهج الذي يدعو إلى قراءة مظاهر الكون والحياة والخلق ليخلص عبر ملاحظاتها إلى الإيمان بالوجود الغني الأوّل . وهنا يحقٍّ أن نشير إلى أنّ عطاء السيد محمد باقر الصدر في هذا المجال يمثل أرقى المحاولات المعاصرة لتأسيس ما يدعي بعلم الكلام الجديد ، حيث الدفاع عن العقيدة الدينية ، علي أساس فلسفي حرٍّ بعيداً عن الإشكالية المزمنة التي ابتلي بها جلّ البحث الكلامي ؛ حيث تأسّس علي قاعدة الجدل وإلزام الخصوم . علي كلّ حال أقام السيد الشهيد الصدر نظريته في اليقين من خلال ما أسماه المذهب الذاتي . أقامه على أساس نظرية في الاحتمال عكست طرازاً متميّزاً في الإبداع ومتميّزاً في نهج التعامل مع الحداثة وعطاءاتها . نأخذ عنصر الإبداع ، حيث انبثق من قاعدته المعرفية وثقافته الفقهية ، فاستلهم مفهوم العلم الإجمالي الذي أدّى دوراً كبيراً في أبحاث علم أصول الفقه في مدرسة النجف الحديثة ، استلهم هذا المفهوم ليطرح تفسيراً جديداً للاحتمال علي أساس مفهوم العلم الإجمالي . وقد حاول أن يكون التفسير شاملاً مستوعباً لاتجاهي أصحاب النزعة الاستقرائية ، الاتجاه المنطقي والاتّجاه التكراري ، وبهذا أيضاً حفظ السيد محمد باقر الصدر تقليد الحكمة الإسلامية العريقة في نظرتها الشاملة التوفيقية بين آراء الحكماء الراسخين علي غرار ما صنعه السلف في الجمع بين آراء الحكيمين ، جمعاً يعكس استشراف الجامع ونافذة رؤيته المسلّحة بالأفق الرحب ، وليس جمعاً تلفيقياً تبرّعياً يعكس عجز الجامع وارتباكه في الاختيار . والاهم من التعريف طريقته في بناء النظرية حيث أسسها علي الأساس الهرمي للنظريات الاستنباطية وسعي إلى إحكام مصادراتها وتأمين إنسجامها مع الحساب الرياضي للاحتمال . والإنجاز التاريخي المبدع فيما حرّره أستاذنا الفقيد ، أنّه ألغى ما ادّعاه جهابذة النزعة الاستقرائية كـ ( راسل ) و( ريشنباخ ) من حاجة الدليل الاستقرائي إلى المصادرة علي مبدأ العلّية ، إذ قدم نموذجاً لنظرية الاحتمال يستطيع من خلاله الدليل الاستقرائي أن يرفع قيمة احتمال الحادثة دون المصادرة علي مبدأ العلّية ومشتقّاته . يبقى علينا أن نتبيّن المزيّة التي امتاز بها السيد محمد باقر الصدر في تعامله مع معطيات الحداثة وحكمة الغرب الحديثة ونحن نعترف أنّ هناك أزمة في التعامل مع الغرب ، أزمة لها تجلياتها المتنوّعة ، عبر القارئين للغرب بوصفه هوية موحدة لا تتجزأ عناصرها ، هوية الغازي المستعمر الذي تجب مجافاته والتعامل مع كلّ معطياته بحذر المقهورين . وعبر الذاهبين إلى ضرورة التعامل مع الهوية الموحّدة أيضاً بوصفهاكلاً لا يتجزّأ لكونه المنقذ المستنير الذي يجب أن نأخذ كلّ إنجازاته مأخذ الواله المتطلّع إلى مواكبة حياة البشر في المعرفة والنمو . وهناك اتّجاه آخر احتل مساحة أوسع في عالمنا ، اتّجاه التعامل التفكيكي مع الغرب ، حيث دعا إلى الأخذ بمنجزاته العلمية ونبذ عطائه وتجربته السياسية والاجتماعية وكلّ ما يرتبط بمقولة ما ينبغي فعله وعالم القيم والأخلاق . أمّا سيدنا الشهيد محمد باقر الصدر فميزته أنّه تعاطى مع الغرب وحكمته انطلاقاً من قاعدة أخرى . لا تتضمّن أزمة هوية وإنّما تركب السبيل الأسلم لتحقيق الذات وإنجاز مشروع الهوية . القاعدة التي انطلق بها مشروع الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء تقول : أنّ الإنتاج المعرفي الداخلي هو سبيلنا لتحقيق هويتنا وانجازها ، والحوار الايجابي النقدي مع الآخر هو الذي يؤسّس لتحقيق الذات وتجاوز عقدة الدونية أمام انجازات غيرنا من الآدميّين . إنّ أزمة المعرفة في عالمنا ، وفي الشرق عامة تكمن أساسا في غياب الإنتاج الداخلي ولا ينحصر بروز أزمتنا المعرفية في استيراد مناهج ورؤى مُنتَجة في العالم الآخر ، بل عمق هذه الأزمة يتجلّي في عقم الإنتاج المعرفي في ديارنا . والأسس المنطقية للاستقراء مُنتَج داخلي بامتياز يجب الاهتمام في فهمه وفهم رسالته ، وينبغي نقده وتجاوز سقفه ؛ لأن المعرفة وفلسفة العلوم فيما أنتجه الآخرون قد تجاوزت إشكاليات النزعة الاستقرائية وطرحت أسئلة جديدة . معرفتنا عامةً ، ومعرفتنا الدينية علي وجه الخصوص ، لا يمكنها أن تحتلّ المكان اللائق بها ، من دون أن تواكب تطوّرات المعرفة المعاصرة بإشكالياتها المتنوّعة ، فتغفل الإنتاج الداخلي المؤسّس علي قاعدة الأصالة وفي أفق مدرسة الاجتهاد مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) التي لنا شرف الانتماء إليها . الأسس المنطقية للاستقراء . . وإشكالية الحداثة * العلامة السيد عمار أبو رغيف سألت الشهيد محمد باقر الصدر يوماً ، وكنت لم أتجاوز بعدُ العقد الثاني من عمري ، قلت له سيدنا : هل لديكم بحث حول الوجودية ؟ فأجابني بلهجة توحي بعدم الاهتمام ! : أنّ هناك مقالات متناثرة نُشرت في بعض الإصدارات ، من دون أن يذكر اسمها ، فسألته عن بواعث عدم الاهتمام هذا ؟ فقال : إنّ الوجودية لا تمتلك صورة برهان ، أي ـ والكلام لي ـ لم تطرح فكرها عبر نظام نظري محدّد المعالم . حفظت هذا الحوار ، بقيت أعيد قراءته باستمرار ... أستلهمه ... أبحث عن جوهره ، وأنا أتأمّل مدارس الفكر المعاصر ، واستنطقه وأنا اقرأ الكل التأريخي لتطوّر المعرفة الحديثة ، بدءاً بـ بيكون ، ودافيد هيوم ، وعمانوئيل كنت ، ومرورا بـ راسل وفلاسفة الوجودية وانتهاء بمذاهب التفكيك واتجاهات التأويلية . الوجودية علي اختلاف مشارب ومصادر روّادها تمثل في جوهرها انفلاتا من الأُطر التي أفرزتها العقلائية وانقلاباً علي النزعة النظرية الشاملة في دراسة الوجود . الوجوديون بصيروراتهم المتنوّعة ، سواء المؤمنون علي طريقة كريغارد أو جبريل مارسل أو كارل ياسبرز ، أم الهائمون على طريقة سارتر وهيدجر ، يرتلون جميعاً مزمار الانفلات من وضع الوجود الإنساني في قفص الأطر الماهوية الجاهزة . هذا الانفلات الذي يؤسّس للتفتيت المعرفي ، فالفوضى المعرفية حيث الخلاص من قهر سلطان العقل ، والتحلل من آخر مقدّسات عصر الأنوار . في هذا الضوء نكون قد أرخنا لعصر ما بعد الحداثة ( معرفياً على الأقل ) ، وتكون الوجودية طليعة هذا العصر الذي يخوض الغرب الراهن في سياقاته . وبهذا التحديد التأريخي المرن نكون قد استبقنا التعريف بعنوان ملتقانا ( الأسس المنطقية للاستقراء وإشكاليات الحداثة ) ، أجل ! فالأسس المنطقية للاستقراء ، والحداثة ، وإشكالياتها ، مشكلات تستدعي الإيضاح والتعريف . ما الحداثة ؟ وما إشكالياتها ، وما علاقة أطروحة الأسس المنطقية للاستقراء بإشكاليات الحداثة ؟ ... ـ إذا اعتمدنا ( آلان تورين ) في تعريف الحداثة ، نكون قد رسمنا لها ثلاث سمات : غياب الإلوهية ، وإزالة السحر عن العالم ، والنظرة الفرويدية للجنس . أمّا إذا اتكأنا على ( جارس بيدرك ) ، فسوف تكون سمات الحداثة الرئيسية متمثّلة : بسلطة العقل وهيمنة النظام ، وسلطة العِلم . وقد ينطلق آخرون من نمط الإنتاج في مراحل تطوّر الرأسمالية ومن مستوي التقنية لتحديد معالم الحداثة . لكنّنا قد نجد توافقا على أنّ الحداثة الغربية ارتبطت معرفياً بالنظرة التجريبية المادّية ، التي يراها غالبية المتابعين الأساس في تطوّر التقنية وتطوير أنماط الإنتاج الرأسمالي . أما إشكاليات الحداثة ، فيمكن أن تُقرأ على طريقة ( آلان تورين ) ومن داخل النظام الرأسمالي الغربي ومنظوماته المعرفية والأخلاقية ، ومن المؤكّد أنّ هذه القراءة ليست من نصيب أحد من أبناء الشرق ، ولا هي القراءة التي اعتمدها أستاذنا الشهيد الصدر في درسه الفلسفي . وقد ينظر إلى إشكاليات الحداثة من الخارج ومن موقع المراقب المعرفي ـ المغاير ـ بالضرورة لموقع ( آلان تورين ) وغيره من مفكّري الغرب ، وقراءة السيد محمد باقر الصدر نموذج لهذه النظرة ، لكنّه نموذج متميّز كما سنأتي علي وصفه وتحليله عامة ، وقد وقع اختياره ، في جلّ بحوثه ، على الدخول في جدل خصيب مع القاعدة المعرفية وإشكاليات المذهب التجريبي في تجلّياته المتنوّعة . نبقي بحاجة إلى إيضاح رسالة الأسس المنطقية للاستقراء ، والهموم التي ساقت صاحبه لولوج هذا الميدان المعرفي الشائك : الاستقراء أحجية العصور ، عالج أرسطو مشكلته الكبرى بإرجاعه إلى مثاله المنطقي ( القياس ) اعتمادا علي البديهيات ( متكآت أرسطو ) ، ليُدخل التجريبيات في مبادئ نظرية البرهان العتيدة . وبقيت معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء تسيطر علي الفكر البشري زمانا لم يدانه أيّ من أزمنة حياة نظريات أرسطو في الفلسفة والمنطق . إذ لم يطرأ علي هذه المعالجة في تاريخ فكر البشر أي تعديل أو تطوير ، بل بقيت كما هي حتى عصر النهضة الأوروبية الحديثة . وحينما أفاقت أوروبا من سباتها الطويل أبان العصر الوسيط ، وجد العقل الأوروبي في أرسطو خصما وجبت منازلته ، لاحَقَ الغرب الحديث أرسطو في ميتافيزقياه وفي فيزيائه ، وفي منطقه ، وانهالت الضربات علي نظرية البرهان الأرسطية وأسسها الفلسفية والمنطقية ، وكان حظ الاستقراء من الطعن كبيراًَ . لم يرتضِ المذهب التجريبي الحديث معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء بعد أن جفا محظيات أرسطو العتيدة ، بل رآها ـ أي البديهيات ـ دعاوى لا تعود إلى أمر محصّل . مال المذهب التجريبي في نهاية القرن التاسع عشر وفي العقود الأولى من القرن العشرين إلى الاعتماد في معالجة مشكلة الاستقراء علي معطيات حلقة ( فينا ) وما دار في فلكها من حكماء ، حيث امتدوا عبر ( الفرد آير ، وكارناب ) إلى أرجاء من أوروبا وأميركا . استقر الرأي علي معالجة الفجوة بين الأمثلة الجزئية المستقرأة والنتيجة الكلّية التي يفضي إليها الاستقراء الناقص ، من خلال الإيمان باحتمالية المعرفة التجريبية ، ومن خلال نظرية في الاحتمال تستوعب الحساب الرياضي بقواعده الأساسية ، ومن خلال الإيمان بحاجة الاستقراء ، إلى المصادرة على قانون العلّية الذي هو جوهر مشكلة الاستقراء . لقد تركت معالجة مشكلة الاستقراء في العصر الحديث تراثاً ثرياً كان على الأسس المنطقية للاستقراء معاينته ونقده ، إلى جانب القطيعة التي حصلت بين الميتافيزيقيا ومنهج العلم وبين الإيمان اليقيني والمعرفة التجريبية ، بل المعرفة عامة في فكر الغرب الحديث ، حيث كانت ( فتوى) ( عمانوئيل كنت ) بشأن عجز العقل النظري عن تأسيس قواعد الميتافيزيقيا فتوى لها قوافل من المقلّدين . ورد السيد الصدر هذا الميدان بتراثه الثري ليَصدُر بمعالجات مصيرية وخطيرة في تأريخ المعرفة الإنسانية ، نحاول أن نشير إلى منعطفات تأريخية في ما طرحه أستاذنا الفقيد رضوان الله عليه : لنبدأ من إشكالية اليقين في المعرفة ، فاليقين في المعرفة الإنسانية أزمة مركزية في كلّ مراحل هذه المعرفة ، فهل صحيح ما قاله المعرّي: أَمّا اليَقينُ فَلا يَقينَ وَإِنَّما = أَقصى اِعتقادي أَن أَظُنَّ وَأُحدِسا أم الصحيح ما قاله أرسطو : أنّ العلم هو : اليقين الذي لا يزول . وما سواه جدلٌ وظنون خارجة عن دائرة العلم . أشرت إلى أنّ أرسطو عالج أزمة اليقين في المعرفة التجريبية من خلال رد أداة التجريب ( الاستقراء ) إلى قياس منطقي ببركة الكبرى البديهية المزعومة : ( الأكثري والدائمي لا يكون صدفة ) . ومِن ثمّ أدخل التجريبات في أسوار مملكة البرهان وجعلها من المبادئ . لكن مدرسة أرسطو أدركت بحسّها الفلسفي الفارق الجوهري بين أحكام المنطق المدعومة بمبدأ استحالة النقيضين ويقينها الذي لا يزول ، وبين أحكام التجريبات التي لا يأتي اليقين فيها إلاّ مشروطاً بثبات الظروف العامة ومن ثمّ لا تأييد في يقينها ولا استحالة في طروّ الاستثناء على أحكامها . أمّا اليقين في حكمة الغرب الحديثة ، فقد أفل نجمه ، وأضحى اليقين الإيماني بحكم تعاليم عمانوئيل كنت ، أمراً لا يطلب إلاّ من خلال مصادرات العقل العملي ، حيث عجز العقل النظري عن تأسيس البرهان علي الوجود الأزلي الأوّل عند ( كنت ) واليقين في ظلّ المذهب التجريبي أمسى أمراً دونه خرط القتاد ، بل المعرفة العلمية بأسرها لا تتعدّى الاحتمال . من المعرفة التجريبية انطلق ( الأسس المنطقية للاستقراء ) فاختار بحق الاجتهاد الاتجاه الذاهب إلى خَطل معالجة أرسطو باعتماد بديهية الدائمي والأكثري لا يكون صدفة ، واتّجه إلى تفسير الدليل الاستقرائي علي قاعدة نظرية في الاحتمال ، سنأتي علي وصفها ، إلاّ أنّ الاحتمال عند السيد محمد باقر الصدر لا يمثّل نهاية رحلة المعرفة ، بل طَرح نظرية جديدة تقرّر : أنّ العلم واليقين يمكن أن ينجبه الدليل الاستقرائي ، وأنّ اليقينيّات المعرفية لا تنحصر باليقين القياسي . في هذا الضوء طرح مزاوجة بين منهج العلم ومنهج الإيمان ؛ حيث أنّ الاستقراء الذي عدّته حكمة الغرب الحديثة الأنموذج الأعلى لتأييد وإثبات قوانين العلوم هو نفسه منهج الإيمان ، هذا المنهج الذي يدعو إلى قراءة مظاهر الكون والحياة والخلق ليخلص عبر ملاحظاتها إلى الإيمان بالوجود الغني الأوّل . وهنا يحقٍّ أن نشير إلى أنّ عطاء السيد محمد باقر الصدر في هذا المجال يمثل أرقى المحاولات المعاصرة لتأسيس ما يدعي بعلم الكلام الجديد ، حيث الدفاع عن العقيدة الدينية ، علي أساس فلسفي حرٍّ بعيداً عن الإشكالية المزمنة التي ابتلي بها جلّ البحث الكلامي ؛ حيث تأسّس علي قاعدة الجدل وإلزام الخصوم . علي كلّ حال أقام السيد الشهيد الصدر نظريته في اليقين من خلال ما أسماه المذهب الذاتي . أقامه على أساس نظرية في الاحتمال عكست طرازاً متميّزاً في الإبداع ومتميّزاً في نهج التعامل مع الحداثة وعطاءاتها . نأخذ عنصر الإبداع ، حيث انبثق من قاعدته المعرفية وثقافته الفقهية ، فاستلهم مفهوم العلم الإجمالي الذي أدّى دوراً كبيراً في أبحاث علم أصول الفقه في مدرسة النجف الحديثة ، استلهم هذا المفهوم ليطرح تفسيراً جديداً للاحتمال علي أساس مفهوم العلم الإجمالي . وقد حاول أن يكون التفسير شاملاً مستوعباً لاتجاهي أصحاب النزعة الاستقرائية ، الاتجاه المنطقي والاتّجاه التكراري ، وبهذا أيضاً حفظ السيد محمد باقر الصدر تقليد الحكمة الإسلامية العريقة في نظرتها الشاملة التوفيقية بين آراء الحكماء الراسخين علي غرار ما صنعه السلف في الجمع بين آراء الحكيمين ، جمعاً يعكس استشراف الجامع ونافذة رؤيته المسلّحة بالأفق الرحب ، وليس جمعاً تلفيقياً تبرّعياً يعكس عجز الجامع وارتباكه في الاختيار . الأسس المنطقية للاستقراء . . وإشكالية الحداثة * العلامة السيد عمار أبو رغيف سألت الشهيد محمد باقر الصدر يوماً ، وكنت لم أتجاوز بعدُ العقد الثاني من عمري ، قلت له سيدنا : هل لديكم بحث حول الوجودية ؟ فأجابني بلهجة توحي بعدم الاهتمام ! : أنّ هناك مقالات متناثرة نُشرت في بعض الإصدارات ، من دون أن يذكر اسمها ، فسألته عن بواعث عدم الاهتمام هذا ؟ فقال : إنّ الوجودية لا تمتلك صورة برهان ، أي ـ والكلام لي ـ لم تطرح فكرها عبر نظام نظري محدّد المعالم . حفظت هذا الحوار ، بقيت أعيد قراءته باستمرار ... أستلهمه ... أبحث عن جوهره ، وأنا أتأمّل مدارس الفكر المعاصر ، واستنطقه وأنا اقرأ الكل التأريخي لتطوّر المعرفة الحديثة ، بدءاً بـ بيكون ، ودافيد هيوم ، وعمانوئيل كنت ، ومرورا بـ راسل وفلاسفة الوجودية وانتهاء بمذاهب التفكيك واتجاهات التأويلية . الوجودية علي اختلاف مشارب ومصادر روّادها تمثل في جوهرها انفلاتا من الأُطر التي أفرزتها العقلائية وانقلاباً علي النزعة النظرية الشاملة في دراسة الوجود . الوجوديون بصيروراتهم المتنوّعة ، سواء المؤمنون علي طريقة كريغارد أو جبريل مارسل أو كارل ياسبرز ، أم الهائمون على طريقة سارتر وهيدجر ، يرتلون جميعاً مزمار الانفلات من وضع الوجود الإنساني في قفص الأطر الماهوية الجاهزة . هذا الانفلات الذي يؤسّس للتفتيت المعرفي ، فالفوضى المعرفية حيث الخلاص من قهر سلطان العقل ، والتحلل من آخر مقدّسات عصر الأنوار . في هذا الضوء نكون قد أرخنا لعصر ما بعد الحداثة ( معرفياً على الأقل ) ، وتكون الوجودية طليعة هذا العصر الذي يخوض الغرب الراهن في سياقاته . وبهذا التحديد التأريخي المرن نكون قد استبقنا التعريف بعنوان ملتقانا ( الأسس المنطقية للاستقراء وإشكاليات الحداثة ) ، أجل ! فالأسس المنطقية للاستقراء ، والحداثة ، وإشكالياتها ، مشكلات تستدعي الإيضاح والتعريف . ما الحداثة ؟ وما إشكالياتها ، وما علاقة أطروحة الأسس المنطقية للاستقراء بإشكاليات الحداثة ؟ ... ـ إذا اعتمدنا ( آلان تورين ) في تعريف الحداثة ، نكون قد رسمنا لها ثلاث سمات : غياب الإلوهية ، وإزالة السحر عن العالم ، والنظرة الفرويدية للجنس . أمّا إذا اتكأنا على ( جارس بيدرك ) ، فسوف تكون سمات الحداثة الرئيسية متمثّلة : بسلطة العقل وهيمنة النظام ، وسلطة العِلم . وقد ينطلق آخرون من نمط الإنتاج في مراحل تطوّر الرأسمالية ومن مستوي التقنية لتحديد معالم الحداثة . لكنّنا قد نجد توافقا على أنّ الحداثة الغربية ارتبطت معرفياً بالنظرة التجريبية المادّية ، التي يراها غالبية المتابعين الأساس في تطوّر التقنية وتطوير أنماط الإنتاج الرأسمالي . أما إشكاليات الحداثة ، فيمكن أن تُقرأ على طريقة ( آلان تورين ) ومن داخل النظام الرأسمالي الغربي ومنظوماته المعرفية والأخلاقية ، ومن المؤكّد أنّ هذه القراءة ليست من نصيب أحد من أبناء الشرق ، ولا هي القراءة التي اعتمدها أستاذنا الشهيد الصدر في درسه الفلسفي . وقد ينظر إلى إشكاليات الحداثة من الخارج ومن موقع المراقب المعرفي ـ المغاير ـ بالضرورة لموقع ( آلان تورين ) وغيره من مفكّري الغرب ، وقراءة السيد محمد باقر الصدر نموذج لهذه النظرة ، لكنّه نموذج متميّز كما سنأتي علي وصفه وتحليله عامة ، وقد وقع اختياره ، في جلّ بحوثه ، على الدخول في جدل خصيب مع القاعدة المعرفية وإشكاليات المذهب التجريبي في تجلّياته المتنوّعة . نبقي بحاجة إلى إيضاح رسالة الأسس المنطقية للاستقراء ، والهموم التي ساقت صاحبه لولوج هذا الميدان المعرفي الشائك : الاستقراء أحجية العصور ، عالج أرسطو مشكلته الكبرى بإرجاعه إلى مثاله المنطقي ( القياس ) اعتمادا علي البديهيات ( متكآت أرسطو ) ، ليُدخل التجريبيات في مبادئ نظرية البرهان العتيدة . وبقيت معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء تسيطر علي الفكر البشري زمانا لم يدانه أيّ من أزمنة حياة نظريات أرسطو في الفلسفة والمنطق . إذ لم يطرأ علي هذه المعالجة في تاريخ فكر البشر أي تعديل أو تطوير ، بل بقيت كما هي حتى عصر النهضة الأوروبية الحديثة . وحينما أفاقت أوروبا من سباتها الطويل أبان العصر الوسيط ، وجد العقل الأوروبي في أرسطو خصما وجبت منازلته ، لاحَقَ الغرب الحديث أرسطو في ميتافيزقياه وفي فيزيائه ، وفي منطقه ، وانهالت الضربات علي نظرية البرهان الأرسطية وأسسها الفلسفية والمنطقية ، وكان حظ الاستقراء من الطعن كبيراًَ . لم يرتضِ المذهب التجريبي الحديث معالجة أرسطو لمشكلة الاستقراء بعد أن جفا محظيات أرسطو العتيدة ، بل رآها ـ أي البديهيات ـ دعاوى لا تعود إلى أمر محصّل . مال المذهب التجريبي في نهاية القرن التاسع عشر وفي العقود الأولى من القرن العشرين إلى الاعتماد في معالجة مشكلة الاستقراء علي معطيات حلقة ( فينا ) وما دار في فلكها من حكماء ، حيث امتدوا عبر ( الفرد آير ، وكارناب ) إلى أرجاء من أوروبا وأميركا . استقر الرأي علي معالجة الفجوة بين الأمثلة الجزئية المستقرأة والنتيجة الكلّية التي يفضي إليها الاستقراء الناقص ، من خلال الإيمان باحتمالية المعرفة التجريبية ، ومن خلال نظرية في الاحتمال تستوعب الحساب الرياضي بقواعده الأساسية ، ومن خلال الإيمان بحاجة الاستقراء ، إلى المصادرة على قانون العلّية الذي هو جوهر مشكلة الاستقراء . لقد تركت معالجة مشكلة الاستقراء في العصر الحديث تراثاً ثرياً كان على الأسس المنطقية للاستقراء معاينته ونقده ، إلى جانب القطيعة التي حصلت بين الميتافيزيقيا ومنهج العلم وبين الإيمان اليقيني والمعرفة التجريبية ، بل المعرفة عامة في فكر الغرب الحديث ، حيث كانت ( فتوى) ( عمانوئيل كنت ) بشأن عجز العقل النظري عن تأسيس قواعد الميتافيزيقيا فتوى لها قوافل من المقلّدين . ورد السيد الصدر هذا الميدان بتراثه الثري ليَصدُر بمعالجات مصيرية وخطيرة في تأريخ المعرفة الإنسانية ، نحاول أن نشير إلى منعطفات تأريخية في ما طرحه أستاذنا الفقيد رضوان الله عليه : لنبدأ من إشكالية اليقين في المعرفة ، فاليقين في المعرفة الإنسانية أزمة مركزية في كلّ مراحل هذه المعرفة ، فهل صحيح ما قاله المعرّي: أَمّا اليَقينُ فَلا يَقينَ وَإِنَّما = أَقصى اِعتقادي أَن أَظُنَّ وَأُحدِسا أم الصحيح ما قاله أرسطو : أنّ العلم هو : اليقين الذي لا يزول . وما سواه جدلٌ وظنون خارجة عن دائرة العلم . أشرت إلى أنّ أرسطو عالج أزمة اليقين في المعرفة التجريبية من خلال رد أداة التجريب ( الاستقراء ) إلى قياس منطقي ببركة الكبرى البديهية المزعومة : ( الأكثري والدائمي لا يكون صدفة ) . ومِن ثمّ أدخل التجريبات في أسوار مملكة البرهان وجعلها من المبادئ . لكن مدرسة أرسطو أدركت بحسّها الفلسفي الفارق الجوهري بين أحكام المنطق المدعومة بمبدأ استحالة النقيضين ويقينها الذي لا يزول ، وبين أحكام التجريبات التي لا يأتي اليقين فيها إلاّ مشروطاً بثبات الظروف العامة ومن ثمّ لا تأييد في يقينها ولا استحالة في طروّ الاستثناء على أحكامها . أمّا اليقين في حكمة الغرب الحديثة ، فقد أفل نجمه ، وأضحى اليقين الإيماني بحكم تعاليم عمانوئيل كنت ، أمراً لا يطلب إلاّ من خلال مصادرات العقل العملي ، حيث عجز العقل النظري عن تأسيس البرهان علي الوجود الأزلي الأوّل عند ( كنت ) واليقين في ظلّ المذهب التجريبي أمسى أمراً دونه خرط القتاد ، بل المعرفة العلمية بأسرها لا تتعدّى الاحتمال . من المعرفة التجريبية انطلق ( الأسس المنطقية للاستقراء ) فاختار بحق الاجتهاد الاتجاه الذاهب إلى خَطل معالجة أرسطو باعتماد بديهية الدائمي والأكثري لا يكون صدفة ، واتّجه إلى تفسير الدليل الاستقرائي علي قاعدة نظرية في الاحتمال ، سنأتي علي وصفها ، إلاّ أنّ الاحتمال عند السيد محمد باقر الصدر لا يمثّل نهاية رحلة المعرفة ، بل طَرح نظرية جديدة تقرّر : أنّ العلم واليقين يمكن أن ينجبه الدليل الاستقرائي ، وأنّ اليقينيّات المعرفية لا تنحصر باليقين القياسي . في هذا الضوء طرح مزاوجة بين منهج العلم ومنهج الإيمان ؛ حيث أنّ الاستقراء الذي عدّته حكمة الغرب الحديثة الأنموذج الأعلى لتأييد وإثبات قوانين العلوم هو نفسه منهج الإيمان ، هذا المنهج الذي يدعو إلى قراءة مظاهر الكون والحياة والخلق ليخلص عبر ملاحظاتها إلى الإيمان بالوجود الغني الأوّل . وهنا يحقٍّ أن نشير إلى أنّ عطاء السيد محمد باقر الصدر في هذا المجال يمثل أرقى المحاولات المعاصرة لتأسيس ما يدعي بعلم الكلام الجديد ، حيث الدفاع عن العقيدة الدينية ، علي أساس فلسفي حرٍّ بعيداً عن الإشكالية المزمنة التي ابتلي بها جلّ البحث الكلامي ؛ حيث تأسّس علي قاعدة الجدل وإلزام الخصوم . علي كلّ حال أقام السيد الشهيد الصدر نظريته في اليقين من خلال ما أسماه المذهب الذاتي . أقامه على أساس نظرية في الاحتمال عكست طرازاً متميّزاً في الإبداع ومتميّزاً في نهج التعامل مع الحداثة وعطاءاتها . نأخذ عنصر الإبداع ، حيث انبثق من قاعدته المعرفية وثقافته الفقهية ، فاستلهم مفهوم العلم الإجمالي الذي أدّى دوراً كبيراً في أبحاث علم أصول الفقه في مدرسة النجف الحديثة ، استلهم هذا المفهوم ليطرح تفسيراً جديداً للاحتمال علي أساس مفهوم العلم الإجمالي . وقد حاول أن يكون التفسير شاملاً مستوعباً لاتجاهي أصحاب النزعة الاستقرائية ، الاتجاه المنطقي والاتّجاه التكراري ، وبهذا أيضاً حفظ السيد محمد باقر الصدر تقليد الحكمة الإسلامية العريقة في نظرتها الشاملة التوفيقية بين آراء الحكماء الراسخين علي غرار ما صنعه السلف في الجمع بين آراء الحكيمين ، جمعاً يعكس استشراف الجامع ونافذة رؤيته المسلّحة بالأفق الرحب ، وليس جمعاً تلفيقياً تبرّعياً يعكس عجز الجامع وارتباكه في الاختيار . والاهم من التعريف طريقته في بناء النظرية حيث أسسها علي الأساس الهرمي للنظريات الاستنباطية وسعي إلى إحكام مصادراتها وتأمين إنسجامها مع الحساب الرياضي للاحتمال . والإنجاز التاريخي المبدع فيما حرّره أستاذنا الفقيد ، أنّه ألغى ما ادّعاه جهابذة النزعة الاستقرائية كـ ( راسل ) و( ريشنباخ ) من حاجة الدليل الاستقرائي إلى المصادرة علي مبدأ العلّية ، إذ قدم نموذجاً لنظرية الاحتمال يستطيع من خلاله الدليل الاستقرائي أن يرفع قيمة احتمال الحادثة دون المصادرة علي مبدأ العلّية ومشتقّاته . يبقى علينا أن نتبيّن المزيّة التي امتاز بها السيد محمد باقر الصدر في تعامله مع معطيات الحداثة وحكمة الغرب الحديثة ونحن نعترف أنّ هناك أزمة في التعامل مع الغرب ، أزمة لها تجلياتها المتنوّعة ، عبر القارئين للغرب بوصفه هوية موحدة لا تتجزأ عناصرها ، هوية الغازي المستعمر الذي تجب مجافاته والتعامل مع كلّ معطياته بحذر المقهورين . وعبر الذاهبين إلى ضرورة التعامل مع الهوية الموحّدة أيضاً بوصفهاكلاً لا يتجزّأ لكونه المنقذ المستنير الذي يجب أن نأخذ كلّ إنجازاته مأخذ الواله المتطلّع إلى مواكبة حياة البشر في المعرفة والنمو . وهناك اتّجاه آخر احتل مساحة أوسع في عالمنا ، اتّجاه التعامل التفكيكي مع الغرب ، حيث دعا إلى الأخذ بمنجزاته العلمية ونبذ عطائه وتجربته السياسية والاجتماعية وكلّ ما يرتبط بمقولة ما ينبغي فعله وعالم القيم والأخلاق . أمّا سيدنا الشهيد محمد باقر الصدر فميزته أنّه تعاطى مع الغرب وحكمته انطلاقاً من قاعدة أخرى . لا تتضمّن أزمة هوية وإنّما تركب السبيل الأسلم لتحقيق الذات وإنجاز مشروع الهوية . القاعدة التي انطلق بها مشروع الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء تقول : أنّ الإنتاج المعرفي الداخلي هو سبيلنا لتحقيق هويتنا وانجازها ، والحوار الايجابي النقدي مع الآخر هو الذي يؤسّس لتحقيق الذات وتجاوز عقدة الدونية أمام انجازات غيرنا من الآدميّين . إنّ أزمة المعرفة في عالمنا ، وفي الشرق عامة تكمن أساسا في غياب الإنتاج الداخلي ولا ينحصر بروز أزمتنا المعرفية في استيراد مناهج ورؤى مُنتَجة في العالم الآخر ، بل عمق هذه الأزمة يتجلّي في عقم الإنتاج المعرفي في ديارنا . والأسس المنطقية للاستقراء مُنتَج داخلي بامتياز يجب الاهتمام في فهمه وفهم رسالته ، وينبغي نقده وتجاوز سقفه ؛ لأن المعرفة وفلسفة العلوم فيما أنتجه الآخرون قد تجاوزت إشكاليات النزعة الاستقرائية وطرحت أسئلة جديدة . معرفتنا عامةً ، ومعرفتنا الدينية علي وجه الخصوص ، لا يمكنها أن تحتلّ المكان اللائق بها ، من دون أن تواكب تطوّرات المعرفة المعاصرة بإشكالياتها المتنوّعة ، فتغفل الإنتاج الداخلي المؤسّس علي قاعدة الأصالة وفي أفق مدرسة الاجتهاد مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) التي لنا شرف الانتماء إليها . والاهم من التعريف طريقته في بناء النظرية حيث أسسها علي الأساس الهرمي للنظريات الاستنباطية وسعي إلى إحكام مصادراتها وتأمين إنسجامها مع الحساب الرياضي للاحتمال . والإنجاز التاريخي المبدع فيما حرّره أستاذنا الفقيد ، أنّه ألغى ما ادّعاه جهابذة النزعة الاستقرائية كـ ( راسل ) و( ريشنباخ ) من حاجة الدليل الاستقرائي إلى المصادرة علي مبدأ العلّية ، إذ قدم نموذجاً لنظرية الاحتمال يستطيع من خلاله الدليل الاستقرائي أن يرفع قيمة احتمال الحادثة دون المصادرة علي مبدأ العلّية ومشتقّاته . يبقى علينا أن نتبيّن المزيّة التي امتاز بها السيد محمد باقر الصدر في تعامله مع معطيات الحداثة وحكمة الغرب الحديثة ونحن نعترف أنّ هناك أزمة في التعامل مع الغرب ، أزمة لها تجلياتها المتنوّعة ، عبر القارئين للغرب بوصفه هوية موحدة لا تتجزأ عناصرها ، هوية الغازي المستعمر الذي تجب مجافاته والتعامل مع كلّ معطياته بحذر المقهورين . وعبر الذاهبين إلى ضرورة التعامل مع الهوية الموحّدة أيضاً بوصفهاكلاً لا يتجزّأ لكونه المنقذ المستنير الذي يجب أن نأخذ كلّ إنجازاته مأخذ الواله المتطلّع إلى مواكبة حياة البشر في المعرفة والنمو . وهناك اتّجاه آخر احتل مساحة أوسع في عالمنا ، اتّجاه التعامل التفكيكي مع الغرب ، حيث دعا إلى الأخذ بمنجزاته العلمية ونبذ عطائه وتجربته السياسية والاجتماعية وكلّ ما يرتبط بمقولة ما ينبغي فعله وعالم القيم والأخلاق . أمّا سيدنا الشهيد محمد باقر الصدر فميزته أنّه تعاطى مع الغرب وحكمته انطلاقاً من قاعدة أخرى . لا تتضمّن أزمة هوية وإنّما تركب السبيل الأسلم لتحقيق الذات وإنجاز مشروع الهوية . القاعدة التي انطلق بها مشروع الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء تقول : أنّ الإنتاج المعرفي الداخلي هو سبيلنا لتحقيق هويتنا وانجازها ، والحوار الايجابي النقدي مع الآخر هو الذي يؤسّس لتحقيق الذات وتجاوز عقدة الدونية أمام انجازات غيرنا من الآدميّين . إنّ أزمة المعرفة في عالمنا ، وفي الشرق عامة تكمن أساسا في غياب الإنتاج الداخلي ولا ينحصر بروز أزمتنا المعرفية في استيراد مناهج ورؤى مُنتَجة في العالم الآخر ، بل عمق هذه الأزمة يتجلّي في عقم الإنتاج المعرفي في ديارنا . والأسس المنطقية للاستقراء مُنتَج داخلي بامتياز يجب الاهتمام في فهمه وفهم رسالته ، وينبغي نقده وتجاوز سقفه ؛ لأن المعرفة وفلسفة العلوم فيما أنتجه الآخرون قد تجاوزت إشكاليات النزعة الاستقرائية وطرحت أسئلة جديدة . معرفتنا عامةً ، ومعرفتنا الدينية علي وجه الخصوص ، لا يمكنها أن تحتلّ المكان اللائق بها ، من دون أن تواكب تطوّرات المعرفة المعاصرة بإشكالياتها المتنوّعة ، فتغفل الإنتاج الداخلي المؤسّس علي قاعدة الأصالة وفي أفق مدرسة الاجتهاد مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ) التي لنا شرف الانتماء إليها .
العلامة السيد عمار أبو رغيف