المعتزلة

  تمهيد المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة، مدرسة فكريّة عقليّة، أعطت للعقل القسط الأوفر والسّهم الأكبر حتّى فيما لا سبيل للعقل إليه. النشأة والتسمية ذكروا في سبب تسمية المعتزلة بهذا الاسم أموراً نذكر منها 1 ـ اعتزال الحرب مع عليّ عليه السلام أو ضدّه قال أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث في كتابه "فرق الشيعة" عند البحث عن الأحداث الواقعة بعد مقتل عثمان: "فلمّا قُتِل بايع الناس عليّّاً فسمّوا الجماعة، ثمّ افترقوا بعد ذلك وصاروا ثلاث فرق: فرقة أقامت على ولايته عليه السلام ، وفرقة خالفت عليّّاً وهم طلحة والزبير وعائشة، وفرقة اعتزلت مع سعد بن مالك وهو سعد بن أبي وقّاص، وعبدالله بن عمر بن الخطّاب، ومحمّد بن مسلمة الأنصاري، وأُسامة بن زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فإنّ هؤلاء اعتزلوا عن عليّ عليه السلام وامتنعوا عن محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم في بيعته والرضى به. فسمّوا المعتزلة، وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد، وقالوا: لا يحلّ قتال عليّّ ولا القتال معه"1. 2 ـ اعتزال واصل بن عطاء عن مجلس الحسن البصري وقع الخلاف في حكم مرتكب الكبيرة وأوجد ذلك ضجّة كبيرة في الأوساط الإسلاميّة في عصر الإمام عليّّ عليه السلام وبعده، حيث عدّ الخوارج مرتكب الكبيرة كافراً، كما عدّه غيرهم مؤمناً فاسقاً، وعدّت المرجئة من شهد بالتوحيد والرسالة لساناً أو جناناً مؤمناً. وقد أخذت المسألة لنفسها مجالاً خاصّاً للبحث عدّة قرون. وكان لها في زمن الحسن البصري دويّ خاصّ. نقل الشهرستانيّ أنّه دخل شخص على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين! لقد ظهرت في زماننا جماعة يُكفِّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم تُخرج عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج. وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر ويقولون لا تضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ فتفكّر الحسن في ذلك وقبل أنْ يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر. ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد يُقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة 2. هذا ويُطلق على المعتزلة تسميات أخرى، منها العدليّة:لأنّهم يلتزمون بالعدل الإلهيّ. الموحِّدة:لأنّهم لا يرون قديماً إلّا اللّه. أهمُّ معتقدات المعتزلة 1 ـ نيابة الصفات عن الذات يعتقد المعتزلة أنّ صفات الله تعالى عين ذاته، والقول المشهور عندهم هي نظريّة نيابة الذات عن الصفات، من دون أنْ تكون هناك صفة، وذلك لأنّهم رأوا أنّ الأمر في أوصافه سبحانه يدور بين محذورين. أ ـ لو قلنا بأنّ له سبحانه صفات مستقلّة عن ذاته كالعلم، وجب الاعتراف بالتعدُّد والإثنينيّة, لأنّ واقع الصفات هو المغايرة للموصوف. ب ـ إنّ نفي العلم والقدرة وسائر الصفات الكماليّة يستلزم النقص في ذاته أوّلاً ويُكذِّبه اتقان آثاره وأفعاله ثانياً. فللفرار من هذين المحذورين كان انتخابهم نظريّة النيابة، وهي القول بأنّ الذات نائبة مناب الصفات. وخلاصة ما يراه المعتزلة في ذلك "إنَّ الذات الإلهيّة قديمة لها صفات هي العلم والقدرة والحياة، وهذه الصفات هي الذات المقدّسة من حيث المصداق والتعدّد فقط في عالم المفاهيم والألفاظ، وجميع هذه الألفاظ تشير إلى معنى واحد فصفات الله تعالى عين ذاته, لأنّ إثبات صفة إلى جانب الذات أو بعرض الذات إنّما يعني إثبات إلهين"3. 2ـ نظرية الإحباط الإحباط في عُرف المتكلّمين عبارة عن بطلان الحسنة، وعدم ترتّب ما يُتوقّع منها عليها، ويُقابله التكفير وهو إسقاط السيئة وعدم ترتّب الآثار عنها. والمعروف عن الإماميّة والأشاعرة هو أنّه لا تحابط بين المعاصي والطاعات والثواب والعقاب، والمعروف من المعتزلة هو التحابط، ثُمّ إنّهم اختلفوا في كيفيّته، منها: أنّ الإساءة الكثيرة تُسقط الحسنات القليلة وتمحوها بالكليّة. وقيل إن جمهور المعتزلة ذهبوا إلى أنّ الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات، وهذا بخلاف قول نُفاة الإحباط, فالمطيع والعاصي يستحقّ الثواب والعقاب معاً، فيُعاقب مدّة ثمّ يخرج من النار فيثاب بالجنّة. نعم ثبت الإحباط في موارد نادرة كالارتداد، والشرك، وقتل الأنبياء...4 3 ـ خلود مرتكب الكبيرة في النار اتّفقت الإماميّة على أنّ الوعيد بالخلود في النار متوجّه إلى الكفّار خاصّة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة، ووافقهم على هذا القول أصحاب الحديث قاطبة، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وزعموا أنّ الوعيد بالخلود في النار عامّ في الكفار وجميع فُسّاق أهل الصلاة. والظاهر من القاضي عبد الجبار ـ وهو أحد شخصيّات المعتزلة ـ هو الخلود، واستدلّ بقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَعْصِ الله ورسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا﴾5. فالله تعالى أخبر أنّ العصاة يُعذّبون بالنار ويخلدون فيها، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعاً فيجب حمله عليهما لأنّه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبيّنة، فلمّا لم يبيّنه دلّ على ما ذكرناه 6 . 4 ـ لزوم الوفاء بالوعيد المشهور عن المعتزلة أنّهم لا يجوّزون عفو الله عن المسيء لاستلزامه الخلف، حيث إنّه توعّد المذنب بالعقاب كما وعد المحسن بالمثوبة، وأنّه يجب العمل بالوعيد، كما هو الحال في الوعد، والعقاب يجب فعله في كلّ حال، بينما الثواب لا يجب إلّا من حيث الجود. 5 ـ الشفاعة ترفع الدرجة لمّا ذهبت المعتزلة إلى خلود مرتكب الكبيرة في النار، وإلى لزوم العمل بالوعيد، ورأت أنّ آيات الشفاعة لو شملت الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا لكانت منزلة الشفاعة منزلة من قتل ولد الغير وترصّد للآخر حتّى يقتله، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هاهنا. فالشفاعة عندهم عبارة عن رفع الدرجة، فخصّوها بالتائبين من المؤمنين وصار أثرها عندهم رفع المقام لا الإنقاذ من العذاب أو الخروج منه، قال القاضي عبد الجبار: إنّ فائدة الشفاعة رفع مرتبة المشفوع له والدلالة على منزلته من الشفيع 7. 6 ـ مرتكب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر (المنزلة بين المنزلتين) إنّ مقترف الكبيرة عند الشيعة والأشاعرة مؤمن فاسق خرج عن طاعة الله. وهو عند الخوارج، كافرٌ كُفْر ملّة عند جميع فرقهم إلّا الإباضيّة فهو عندهم كافرٌ كُفْر النعمة، وأمّا المعتزلة فهو عندهم في منزلة بين المنزلتين قال القاضي:إنّ صاحب الكبيرة له اسم بين الإسمين، وحكم بين الحكمين لا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسم المؤمن فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن بل يُفرد له حكم ثالث. وهذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين، قال: صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان. 7 ـ التفويض في الأفعال ذهبت المعتزلة إلّا من شذّ كالنجّار وأبي الحسن البصري إلى أنّ أفعال العباد واقعة بقدرتهم وحدها على سبيل الإستقلال دون إيجاب بل باختيار. قال القاضي: أفعال العباد لا يجوز أنْ توصف بأنّها من الله تعالى ومن عنده ومن قِبَله... قال السيّد الشريف الجرجانيّ ـ(ت 886 هـ): إنّ المعتزلة استدلّوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد وهو أنّه لولا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار، لبطل التكليف وبطل التأديب الّذي ورد به الشرع، وارتفع المدح والذم، إذ ليس للفعل استناد إلى العبد أصلاً، ولم يبق للبعثة فائدة لأنّ العباد ليسوا موجدين أفعالهم، فمن أين لهم استحقاق الثواب والعقاب 8. 8 ـ الإمامة بالشورى اتفقت الإماميّة على أنّ الإمامة بالنصّ، خلافاً للأشاعرة والمعتزلة حيث قالوا إنّها بالشورى وغيرها، ويتفرّع على ذلك أمرٌ آخر وهو: أنّ النبيَّ نصّ على خليفة بالذّات عند الإماميّة، وقال الآخرون: سكت وترك الأمر شورى بين المسلمين. قال القاضي عبد الجبّار عند البحث عن طرق الإمامة (عند المعتزلة): إنّها العقد والاختيار. ومن هنا قالت المعتزلة أنّ عليّاً عليه السلام هو الأفضل والأحقّ بالإمامة، وأنّه لولا ما يعلمه الله ورسوله من أنّ الأصلح للمكلّفين تقديم المفضول عليه لكان من تقدمّ عليه هالكاً. وهذا ما أشار إليه ابن أبي الحديد المعتزلي في مقدّمة شرحه لنهج البلاغة حيث قال: "وقدّم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف". أهمُّ شخصيّات المعتزلة 1 ـ واصل بن عطاء (80 ـ 131هـ) أبو حذيفة واصل بن عطاء مؤسِّس الاعتزال، المعروف بالغزّال. قال الذهبيّ: جالس أبا هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفية (بن الإمام عليّ عليه السلام )، ثمّ لازم الحسن (البصري) وكان صموتاً، وله مؤلَّف في التوحيد، وكتاب "المنزلة بين المنزلتين"9. روى المبرّد قال: حُدّثتُ أنّ واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسّوا بالخوارج، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقال واصل لأهل الرفقة: إنّ هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا ودعوني وإيّاهم، فقالوا: شأنك. فقال الخوارج له: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله، ويُقيموا حدوده فقالوا: قد أجرناكم، قال: فعلّمونا أحكامه، فجعلوا يعلّمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي، قالوا: فامضوا مصاحبين فإنّكم إخواننا، قال لهم: ليس ذلك لكم. قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حتّى يَسْمَعَ كَلامَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾10 فأبلغونا مأمننا فساروا بأجمعهم حتّى بلغوا الأمن11. 2 ـ عمرو بن عبيد (80 ـ 143هـ ) الشخصيّة الثانية للمعتزلة بعد واصل بن عطاء هو عمرو بن عبيد وكان من أعضاء حلقة الحسن البصري. مثل واصل، لكنّه التحق به بعد مناظرة جرت بينهما. 3 ـ أبو الهذيل العلّاف (135 ـ 235هـ) أبو الهذيل محمّد بن الهذيل العبدي ـ نسبة إلى عبدالقيس ـ وكان مولاهم وكان يلقّب بالعلّاف، لأنّ داره في البصرة كانت في العلّافين. 4 ـ إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام (160 ـ 231 هـ) النظّام: هو من شخصيّات المعتزلة ومن متخرّجي مدرسة البصرة للاعتزال، وقد ذكروا أنّه كان قويّ الذكاء. وقد اشتهر النظّام بمذهب الصرفة 12في إعجاز القرآن فقد كان يُجوِّز أنْ يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع 13ومن المعلوم أنّ تفسير إعجاز القرآن بمثل هذا باطل جدّ, لأنّ القرآن عند المسلمين مُعجِز لكونه خارقاً للعادة لما فيه من ضروب الإعجاز في الجوانب الأربعة 1 ـ الفصاحة القصوى 2 ـ البلاغة العليّا 3 ـ النظم المخصوص 4 ـ الأُسلوب البديع.فقد تجاوز عن حدِّ الكلام البشريّ ووصل إلى حدٍّ لا تكفي في الإتيان بمثله القدرةُ البشريّة. 5 ـ أبو عليّ محمّد بن عبدالوهّاب الجبّائي (235 ـ 303هـ) هو أحد أئمّة المعتزلة في عصره، وإمام في الكلام، وفي كتاب "الفهرست" لابن النديم: "هو من معتزلة البصرة، ذلّل الكلام وسهّله ويسّر ما صعب منه، وإليه انتهت رئاسة البصريّين في زمانه"14. 6 ـ قاضي القضاة عبد الجبّار (324 ـ 415 أو 416هـ) هو عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار الهمداني الأسدآبادي، الملقّب بقاضي القضاة ولا يُطلق ذلك الّلقب على غيره. 7 ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (المتوفّى عام 255هـ) قال القاضي نقلاً عن "المصابيح": "إنّه نسيج وحده في العلوم، لأنّه جمع إلى علم الكلام والفصاحة، العلم بالأخبار والأشعار والفقه وتأويل الكلام وهو متقدّم في الجدّ والهزل، وله كتب في التوحيد وإثبات النبوّة ونظم القرآن وحدوثه، وفي فضائل المعتزلة"15. الخلاصة المعتزلة من الاتجاهات المذهبيّة الكلاميّة ذات النزعة العقليّة. سُمّيت المعتزلة بهذا الاسم تبعاً لجماعة اتخذوا موقفاً حياديّاً فلم يحاربوا مع الإمام علي عليه السلام ولم يحاربوا ضدّه، أو لأجل اعتزال واصل بن عطاء وهو إمام المعتزلة مجلس الحسن البصريّ. تتمثّل أهمُّ معتقدات المعتزلة في التالي 1 ـ نيابة الصفات عن الذات، 2 ـ نظريّة الإحباط أي القول بأنّ السيّئة تُبطل الحسنة. 3 ـ خلود مرتكب الكبيرة في النار. 4 ـ التفويض في أفعال العباد. أهمُّ شخصيّات المعتزلة هم:واصل بن عطاء، عمرو بن عبيد، النظّام، قاضي القضاة عبد الجبار، والجاحظ. * دراسات في المذاهب الإسلامية, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية 1-الملل والنحل، السبحاني، ج 3، ص231. 2-الملل والنحل، الشهرستاني، ج1، ص 48. 3-راجع: صفات الله عند المسلمين، حسين العايش، ص 17. 4-انظر: رسائل ومقالات، السبحاني، ص 370. 5-النساء: 14. 6-رسائل ومقالات، السبحاني، ص 370. 7-م.س، ص 372. 8-رسائل ومقالات، السبحاني، ص 377. 9-سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج5، ص 464. 10-التوبة: 6. 11-أمالي المرتضى، السيد المرتضى، ج1، ص168. 12-إشارة إلى قوله تعالى: }سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ{ سورة الأعراف، الآية: 146. 13-مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري، ص225. 14-الفهرست، لابن النديم، ص 217، الهامش. 15-الملل والنحل، السبحاني، ج3، ص 381، نقلاً عن فضل الاعتزال، ص 275. 16-بحار الأنوار، المجلسي، ج23، ص7. http://almaaref.org