تعريف المال عند علماء الشريعة

اختلف الفقهاء في تعريف المال ـ تبعاً لاختلافهم في أحكامه ـ على اصطلاحين رئيسيين، هما اصطلاح الحنفية، واصطلاح الجمهور: ويمكن دراسة هذا المبحث ضمن ثلاثة مطالب: المطلب الأول ـ تعريف المال عند الحنفية: ذكر الحنفية تعريفات عدة للمال تتقارب معانيها، أذكر منها: ما قاله ابن عابدين: ((المال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة)). وقال ابن نجيم: ((وفي الحاوي القدسي: المال: اسم لغير الآدمي خُلق لمصالح الآدمي، وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار)). وقيل: ((المال: عين يجري فيه التنافس والابتذال)). شرح تعريف الحنفية للمال: 1 ـ المال ما يميل إليه الطبع: وعليه فكل ما ينفر منه الطبع لا يعدّ مالاً، كالميتة والدم، والمراد بالطبع هنا، الطبع العام وليس طبع إنسان بعينه. 2 ـ المال ما يمكن إحرازه وادخاره لوقت الحاجة: فيخرج بهذا الأمور المعنوية التي لا تقبل طبيعتها البقاء والادخار، كالمنافع المجردة مثل سكنى الدار وركوب السيارة. 3 ـ المال عين يجري فيها التنافس والابتذال: لإخراج المحقرات، كحبة قمح وشق تمرة، وشربة ماء، فلا تعد مالاً لتفاهتها. ولأنها لا يُنتفع بها في عادة الناس، فلا يُتنافس فيها، ولا يُبذل المال مقابلها. وكذلك يخرج من التعريف ما لا يُنتفع به أصلاً كلحم الميتة والطعام المسموم فلا يُتنافس فيهما. أما الانتفاع بالميتة حال الضرورة فلا يجعل الشيء مالاً لأن ذلك ظرف استثنائي. 4 ـ لا يعد الإنسان مالاً، والعبد وإن كان فيه معنى المالية إلا أنه ليس بمال حقيقة، إذ المالية فيه أمر عارض. مناقشة الحنفية في تعريفهم للمال: قيل للحنفية: 1 ـ إن تحكيم طباع الناس لبيان ماهية المال يجعله غير منضبط، فطباع الناس متفاوتة، فلا تصلح أن تكون مقياساً لتمييز المال من غير المال. 2 ـ إن من الأموال ما لا يميل الطبع إليها كالأدوية الكريهة والسموم، مع أنها أموال ثمينة ولا يشملها التعريف. 3 ـ تعريف المال بأنه ما يمكن ادخاره لوقت الحاجة، غير شامل، لأن بعض الأشياء المتفق على ماليتها، كالخضراوات، لا تدخل في التعريف. عناصر المالية عند الحنفية: يتضح مما تقدم أن الشيء لا يعتبر مالاً وفقاً لاصطلاح الحنفية إلا إذا توفر فيه عنصران: العينية، والعرف. 1 ـ العينية: بأن يكون له وجود خارجي، فما ليس له مادة وجرم في الخارج لا يعد مالاً، كسكنى الدار، وركوب السيارات، والقطارات، والطائرات، وغير ذلك من المنافع العرضية التي لا تحاز بنفسها. وكذلك لا تعد الحقوق المحضة مالاً،كحق التعلي، وحق الشرب والديون، وإنما هي من قبيل الملك. 2 ـ العرف: وذلك بأن تجري عادة الناس، كلهم أو بعضهم، على تمول عين، وحيازتها، والتنافس فيها، وبذل العوض مقابلها، وقبولها في الإبراء. فما لا يجري فيه ذلك بين الناس لا يعتبر مالاً ولو كان عيناً مادية، كالإنسان الحر، وحبة القمح، وكسرة الخبز. وحتى لو كان الشيء غير مباح شرعاً ولكنه متمول عند بعض الناس دون بعض فيعتبره الحنفية مالاً، وذلك كالخمر والخنزير ونحوهما من الأموال، لتمول غير المسلمين لها، ولكنهما مال غير متقوم. مصدر مالية المال عند الحنفية: إن مصدر مالية المال هو العرف، سواء أكان عرفاً عاماً كتعارف الناس على تمول الإبل والبقر والغنم، أم كان عرفاً خاصاً، كتعارف بعضهم على تمول الخمر والخنزير. فإذا تعارف الناس على اتخاذ أي شيء اسبغه ذلك العرف صفة المال. أما بالنسبة للعينية فهي شرط لكون الشيء مالاً، ولكنها ليست مصدراً لمالية الشيء، إذ مالية الشيء لا تستمد من كونها عيناً، فحبة الشعير وكسرة الخبز لهما عين ووجود خارجي ومع ذلك فليستا بمال لأنهما لا قيمة لهما عرفاً. إلا إذا دخلتها صنعة فعندها يصبح لها قيمة، كأن تُكتب أبيات من الشعر أو حكم قرآنية على حبة أرز. فإسباغ الناس صفة المال عليها هو الذي جعل لها قيمة. مصدر التقوم: يعتبر الشيء ذا قيمة عند الحنفية إذا توفر فيه أمران: ـ أولاً: بأن يتعارف الناس على مالية عين، حيث تكون لها قيمة مادية، يتنافس فيها، ويبذل المال للحصول عليها. ـ ثانياً: إقرار الشارع الانتفاع بتلك العين. فإذا تعارف بعض الناس على تمول الخمر والخنزير، وكان لهما قيمة عندهم، فهما مال، لكنه مال غير متقوم، لعدم إقرار الشارع الانتفاع بهما. من خلال ما تقدم يمكن أن نستنتج أن المال عند الحنفية على نوعين: 1 ـ مال تام: وهو ما توفر فيه الشرطان: تعارف الناس على الانتفاع بعين، وإقرار الشارع الاستفادة منها. 2 ـ مال ناقص: وهو تعارف الناس على الانتفاع بعين، لكن الشارع لا يبيح ذلك الانتفاع. المطلب الثاني ـ تعريف المال عند جمهور الفقهاء قال السيوطي: ((أما المال، فقال الشافعي (رض): لا يقع اسم مال إلا على ماله قيمة يباع بها، وإن قلّت، وما لا يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك)). وقال الزركشي: ((المال ما كان منتفعاً به، أي مستعداً لأن ينتفع به، وهو إما عيان أو منافع)). وقال شرف الدين المقدسي: ((المال ما يباح نفعه مطلقاً، أو اقتناؤه لغير حاجة أو ضرورة)). فالمال عند الجمهور كل ما له قيمة بين الناس، ويُلزم متلفه بضمانه، ويباح شرعاً الانتفاع به حال السعة والاختيار. وعليه، فما لا قيمة له بين الناس لا يعدّ مالاً، كحبة الحنطة، وفي هذا يتفق الحنفية مع الجمهور. وأيضاً لا يعدّ مالاً ما لا يباح الانتفاع به شرعاً، فالخمر والخنزير لا يسميان مالاً أصلاً لعدم إباحة الانتفاع بهما حالة الاختيار، وجواز الانتفاع بهما حالة الاضطرار لا يُسبغ عليهما صفة المالية. ولا يشترط الجمهور في المال ن يكون له وجود مادي، فالمنافع والحقوق المحضة والديون تعتبر أموالاً عندهم. مصدر مالية المال عند الجمهور: إذن مالية عند الجمهور تكمن في عنصرين: ـ أولاً: تعارف الناس على جعل شيء له قيمة، سواء أكان عيناً أم منفعة. ـ ثانياً: إقرار الشارع إباحة الانتفاع بما تعارف الناس عليه، حال السعة والاختيار. قال النووي في ذكر شروط المبيع: ((الشرط الثاني: أن يكون منتفعاً به، فما لا نفع فيه ليس بمال، فأخذ المال في مقابلته باطل، ولعدم المنفعة سببان: ـ أحدهما: القلة، كالحبة والحبتين من الحنطة، والزبيب، ونحوهما، فإن ذلك لا يعد مالاً. ـ السبب الثاني: الخسّة، كالحشرات)). الفرق بين اصطلاح الحنفية واصطلاح الجمهور في معنى المال: من خلال ما تقدم يتضح أن الفرق بين اصطلاح الحنفية واصطلاح الجمهور في معنى المال يكمن في نقطتين: الأولى: في مدى اعتبار المنافع أموالاً أم لا؟: فقد ذهب الحنفية إلى عدم اعتبار المنافع أموالاً، كسكنى الدار، وركوب السيارة. واستدلوا على ذلك بأن صفة المالية للشيء لا تثبت إلا بالتمول، والتمول حيازة الشيء وإحرازه، فما لا يمكن إحرازه وحيازته لا يعتبر مالاً، والمنافع قبل كسبها معدومة، والمعدوم لا يطلق عليه اسم المال، وبعد كسبها لا يمكن إحرازها. أما الجمهور: فاعتبروا المنافع أموالاً، فالمال يشمل الأعيان والمنافع، لأن الطبع يميل إلى المنافع، وتدفع الأموال في سبيل الحصول عليها، والمصلحة في التحقيق تقوم في منافع الأشياء لا في ذواتها. وقد أجاز الشارع أن تكون المنافع مهراً في الزواج ولا يكون مهراً في الزواج إلا المال، قال تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) النساء 4: 24 وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس. الثانية: الخمر والخنزير بالنسبة لغير المسلم: اعتبر الحنفية الخمر والخنزير مالاً بالنسبة لغير المسلم، لأن أهل الذمة لا يعتقدون حرمة ذلك، ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون، ومن هنا يجوز لهم بيعه، ولا يجوز ذلك للمسلم. أما الجمهور فلا يعتبرون الخمر والخنزير مالاً في حق المسلم وغير المسلم. إذن فالحنفية لم يجعلوا إباحة الانتفاع شرعاً عنصراً من عناصر المالية بل اعتبروها عنصراً من عناصر التقوم، أما جمهور الفقهاء فاعتبروا إباحة الانتفاع شرعاً عنصراً من عناصر المالية، فإذا لم يكن الشيء مباح الانتفاع به شرعاً لا يعتبر مالاً. المطلب الثالث ـ أقسام المال في الشريعة الإسلامية ينقسم المال باعتبارات مختلفة: 1 ـ فهو باعتبار طبيعته ووظيفته ينقسم إلى: نقود وعروض. 2 ـ وباعتبار إباحة الانتفاع وحرمته إلى: متقوم وغير متقوم. 3 ـ وباعتبار تماثل أجزائه وعدم تماثلها إلى: مثلي وقيمي. 4 ـ وباعتبار استقراره في محله وعدم استقراره إلى: عقار ومنقول. 5 ـ وباعتبار بقاء عينه بالاستعمال وعدم بقائه إلى: استهلاكي واستعمالي. وما يهمنا من هذه الأقسام، هو القسم الأول، ولذلك سأقصر البحث عليه. ينقسم المال تبعاً لوظيفته والغرض منه إلى: نقود وعروض: ـ أولاً: العروض تشمل كلمة العروض جميع الأموال ما عدا ما أعد للثمنية: قال ابن قدامة: ((العروض جمع عرض، وهو غير الأثمان من المال على اختلاف أنواعه، من النبات، والحيوان، والعقار، وسائر الأموال)). ـ ثانياً: النقود النقود جمعنقد، وهو يشمل كل ما أعد للثمنية، كالدنانير والدراهم الخالصة والدنانير والدراهم المغشوشة، والفلوس الرائجة، والأوراق النقدية. وتسمى النقود ثمناً في كل حال، وغيرها مثمناً، إذا قوبلت في العقد بأي مال، كانت هي الأثمان والعوض، والعروض هي المعوض، أما إذا قوبل أحدها بالآخر كان العقد صرفاً. أما بقية الأموال إذا قوبلت ببعضها دون جعل النقود وسيطاً كانت العملية مقايضة. وتتميز النقود بميزتين: الأولى: إنها معيار ومقياس تقدر بها مالية سائر الأموال. الثانية: إنها عند الحنفية لا تتعين في العقود بالتعيين بالإشارة، بل تعرف بالأوصاف. ويمكن تقسيم النقود إلى قسمين: 1 ـ نقود بالخلقة: وهي الذهب والفضة. 2 ـ نقود بالاصطلاح: وهي الدراهم والدنانير المغشوشة، والفلوس الرائجة، والأوراق النقدية. والأولى تسمى في اصطلاح علماء الاقتصاد نقوداً سلعية والثانية نقود ائتمانية. معنى كون الذهب والفضة أثماناً خلقة: هذه المسألة مهمة في موضوع النقود، ودقيقة، ويبدو أن كثيراً من العلماء الذين لم يضفوا الصفة الشرعية على الأوراق النقدية، إنما توهموا المراد بقول الفقهاء: الذهب والفضة أثمان خلقة، فالتبس عليهم الأمر. فما المقصود بقول الفقهاء الذهب والفضة أثمان خلقة؟ هل يعني أن الله خلقهما لغرض الثمنية؟ ومن ثم فأي شيء اصطلح عليه الناس لا يمكن أن يصل إلى مرتبة الذهب والفضة، ولا تنسحب أحكام الذهب والفضة عليه، فشتان بين ما خلقه الله للثمنية وبين ما اصطلح الناس عليه!! أم إن المراد بقول الفقهاء ذلك أن الذهب والفضة بخلقتهما وطبيعتهما أثمان بمعنى أن قوتهما الشرائية مستمدة من الطبيعة المعدنية؟ بعض العلماء يرجح التفسير الأول، ومن ثم فلا نقد إلا الذهب والفضة، وأحكامهما قاصرة عليهما فمن هؤلاء الأستاذ محمد سلامة جبر حيث يقول: ((الذهب والفضة نقدان برأسيهما، وثمنان بأصل خلقتهما، ومهما تعارف الناس على غيرهما وسيطاً في التعامل من معادن مضروبة، كالفلوس، أو غيرها كالنقود الورقية، فكل ذلك لا يعني من الحق شيئاً)). والحقيقة فإن التعامل بالذهب والفضة كان على أساس العرف والاصطلاح، ولا يعني ذلك أن الله تعالى خلق الذهب والفضة كوسيط للتداول وأمر الناس بالتعامل بهما دون سواهما. وأما استدلال الأستاذ محمد سلامة جبر بمفهوم المخالفة فغير صحيح فالذهب والفضة لقب، واللقب لا مفهوم له. يقول البجيرمي: ((إن كلاً من الذهب والفضة لقب، أي ليس بمشتق، واللقب لا مفهوم له)). ويبين الجصاص أن التعامل بالذهب والفضة كان على أساس العرف، فيقول: ((كون الذهب والفضة أثماناً ليس من علل المصالح، لأن كونهما أثماناً كان باصطلاح الناس عليه)). ويبين السرخسي المقصود من الدنانير والدراهم فيقول: ((إنما المقصود المالية، وما وراء ذلك هي والأحجار سواء))، والمالية هي القوة الشرائية، وهذا المعنى هو الذي عناه الغزالي بقوله: ((فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض)). إذن فليس ذات معدن الذهب والفضة هو المقصود، وإنما الغرض منه كونه وسيطاً لتبادل السلع والخدمات، وقوة شرائية، ووحدة للحساب. وهكذا يتضح أن معنى كون الذهب والفضة ثمناً بالخلقة، أي أنهما ثمناً بطبيعتهما، سواء أكانا مضروبين أم تبراً، أم سبائك، لأنهما معدنان مرتفعا القيمة في كل حالاتهما، ويتصفان بالندرة النسبية، وذلك بخلاف غيرهما .. فالنحاس مثلاً لا يعد نقداً إلا إذا ضربت منه الفلوس، وإذا ضربت منه الفلوس، فإن قيمة الفلس تزيد على قيمة النحاس المضروب، وهذا معنى كونها أثماناً اصطلاحية، فقيمتها وقوتها الشرائية تستمد من اصطلاح الناس وتعارفهم لا من ذات المعدن. ثم إذا بطل التعامل بنوع من الدنانير والدراهم الخالصة، وسُكّت عملة جديدة، لا تكسد الأولى، إذ هي قابلة للصهر والسك مرة أخرى. وعن هذا قال الفقهاء: ((إن الذهب والفضة يعتبران أثماناً بالخلقة ((أي بطبيعتهما ولو غير مسكوكين)). والنتيجة التي يمكن أن أصل إليها هي: 1 ـ الثمنية باقية في الذهب والفضة نظراً للمزايا التي يمتاز بها هذان المعدنان. 2 ـ إن اعتبار الذهب والفضة أثماناً بالخلقة، لا يمنع جعل غيرهما نقداً رئيسياً، إذ قصارى ما تدل عليه عبارة (أثمان خلقة) أن القوة الشرائية لهما مستمدة من ذاتهما، وهما أثمان بطبيعتهما، حال كونهما مسكوكات أو سبائكَ. http://www.erfan.ir