الإقتصاد الإسلامي في مرتكزاته الأساسية

  الکاتب : محمد أبو المجد      «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً...»(لقمان /20) الغاية التي عقد هذا البحث من أجلها إنّما تنصب على إعطاء صورة للخطوط العريضة التي تتجلى من خلالها معالم الجانب الإقتصادي من المنهج الإسلامي فحسب، أما الصيغة التفصيلية لهذه المسألة فقد تكفلت في إبرازها الموسوعات الإسلامية الضخمة التي تصدر لإنجازها علماء الشريعة قديماً وحديثاً. ولأجل أن نبرز الصورة التي نبتغيها من خلال هذا البحث يلزمنا أن يكون إبراز المعالم الآتية محوراً لبحثنا هذا: 1. الصيغة النظرية للتملك. 2. الثروة في إطارها العملي. 3. مبدأ الضمان الإجتماعي. 1. الصيغة النظرية للتملك: من خلال التلقينات والبنود التشريعية التي تنصب على إبراز الجانب الإقتصادي من المذهب الإسلامي تتجلى فكرة اعتبار الثروة برمتها ملكاً محضاً لخالق الوجود ذاته «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(المائدة /17) «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»(لقمان /20). إلاّ أنّ المالك الحقيقي سبحانه قدمنح النوع الإنساني حق الإستخلاف في هذه الثروة ليستنبطها وينتفع بها «وَأَنْفِقُوا مِمَّا َجعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ»(الحديد /7) «وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ»(النور /33) واعتبار الثروة ملكاً محضاً لله سبحانه –والإنسان إنّما يمارس دوره باعتباره مستخلفاً فيها- إنّما هي مسألة ذات أبعاد إيجابية في الواقع الحياتي لهذا الإنسان إذ إنّه وفقاً لهذا المرتكز يجب أن يكون تصرفه في الثروة التي يؤتاها مطابقاً تماماً لما تمليه عليه إرادة المالك الحقيقي ذاته سواء في طرق الإنتفاع بالثروة أم في وجوه التصرف بها وهذا التصميم المذهبي لواقع التملك في حياة الإنسان إنّما يجسد أوفر ضمانة قانونية لإقامة لون من العدالة الإجتماعية تستظل بها كل نفس في الجتمع الإنساني برمته دون أن تستأثر بها جماعة أخرى بل أن كل امريء في رحاب هذه العدالة يأخذ نصيبه من الثروة غير منقوص ما دام أصحاب الثراء في المجتمع الإسلامي موظفين ووكلاء لدى المالك الحقيقي للثروة ملزمين بالعمل فيها وفقاً لما يقرره المالك ذاته. 2. الثروة في إطارها العملي: ألاّ إنّ الرسالة الإسلامية وإن منحت الإنسان النوع حق إستخلاف هذه الثروة في هذا الوجود المترامي الفسيح إلاّ أنها من زاوية أخرى حسبت للإنسان الفرد كذلك حسابه الخاص. فلهذا الكائن نوازعه وميوله الفطرية ومطالبه الحياتية التي لا تستقيم حياته ولا يستمر وجوده إلاّ بتلبية مطالبها والعمل على إشباعها وفي طليعة هذه الجوعات المركوزة في كيان هذا الإنسان ميله لإمتلاك جزء من ثروة هذا الوجود ممتلكاً خاصاً وقد وعت الرسالة الإسلامية أبعاد هذا المنطق لدى الإنسان «وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ»(العاديات /8) «وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا»(الفجر /20) وجسدته على الصعيد الحياتي واقعاً ملموساً يمنح الإنسان الفرد حق التملك الخاص «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ»(النساء /32)إلا إن هذا الحقّ له اطره وأبعاده التي تنيره عن التملك الخاص في إطار المذهب الرأسمالي، فلئن كان الإختصاص في التملك في ظل الرأسمالية ذا أبعاد مطلقة وغير محدودة فللمرء أن يمتلك ما يشاء دون إلتزامات أدبية أو قانونية توطر له تملكه وأسلوب تملكه، فإن الإختصاص في التملك في ظل المنهج الإسلامي خاضع لأطر شتى أخلاقية وقانونية تمنحه أبعاداً معينة لا يتجاوزها وتحدُ من نموه نمواً سرطانياً وهذا التحديد لإبعاد التملك الخاص يتحقق بطريقتين: 1. الطريقة الوقائية: وفيها يسد المنهج الإسلامي في الإقتصاد كل منابع الثراء التي لا يتوفر فيها العنصر الإخلاقي كالربا والإحتكار والغش والميسر والرشوة والسرقة والتلاعب بالموازين والمكاييل وغير ذلك من المكاسب المحظور على المسلم ارتيادها. 2. الطريقة العلاجية: إلاّ إنّ هذه الطريقة الوقائية التي سلكها الإسلام لمنع النمو الفاحش للملكية الخاصة ليس في مقدروها أن تسد كل ثغرات هذا النمو السرطاني في الثروة لأن الطرق الطبيعية التي حث الإسلام مريديه على كسب الثروة والإنتفاع بها عن طريقها كالإتجار والزراعة وغيرها ذات فاعلية كبيرة في إنماء الثروة لدى فئة كبيرة من الناس وهكذا جاء دور منهجة العلاج الحاسم لهذا الثراء المشروع للتخفيف من غلوائه وللحيلولة دون تكديسه لدى البعض وقد تمثلت منهجة العلاج لهذه المسألة بالضرائب المالية التي فرضها المذهب الإسلامي في الإقتصاد كالزكاة والخراج و الميراث والضرائب التصاعدية ونحوها، وبهذا الإسلوب يضع الإسلام الحنيف القواعد القانونية الأصيلة لتأطير الملكية الخاصة وتوجيهها توجيهاً منسجماً مع مطالب الإنسان ذاته بقدر إنسجامه مع مصالح الجماعة برمتها، إلاّ أنّ الإختصاص في التملك في المنهج الإسلامي ليس هو المحور الأساسي والركيزة الوحيدة التي ينتظم على ضوئها النشاط الإقتصادي في المجتمع الإسلامي وإنّما ثمة محاور أخرى تتفاعل جميعاً لتنظيم الحياة الإقتصادية في الواقع الإسلامي. 1. الملكية العامة: وهذا التملك يمثل حق الأمة بإمتدادها التأريخي في جزء من الثروة محدد في المنهج الإسلامي في الإقتصاد وحين يمارس الفرد دوراً معيناً من أدوارها الإنتفاع كالعمل أو الحيازة فإنّ انتفاعه بقسط من هذه الثروة لا يتخذ طابع الإختصاص في التملك وإنّما بإعتباره حقاً خاصاً مقابلاً لما بذله من جهد من أجل الإنتفاع ومن مظاهر هذا التملك العام: 1. الأراضي التي دخلت دار الإسلام بعمل عسكري مارسته الأمة وكانت الأرض عامرة بشرياًَ عند فتحها والتي يطبق عليها بالإصطلاح الإسلامي «الأرض الخراجية». 2. المعادن التي لا تحتاج إلى جهد كبير في الإنتفاع بها كالملح والنفط ونحوها. 2. ملكية الدولة: وهذا التملك يمثل حق الدولة الإسلامية بصفتها المعنوية في إمتلاك جزء من الثروة، بإعتبار الدولة في نظر الإسلام المظهر الأعلى الذي يمثل الإسلام على الصعيد الفكري والتشريعي والدولي وبإعتبارها كذلك قائمة برعاية شؤون الأمة. وهذا الحق –حق التملك- قد منح لجهاز الدولة بغية قيامها بأعلى مستويات الرعاية لشؤون المجتمع الإسلامي لتحقيق الوضع الأفضل لأجيال الأمة على الصعيد  الفكري والعملي، وهذا اللون من التملك لا يسوغ أن يجري عليه عامل الإختصاص في التملك إنما يباح للأفراد فقط الإنتفاع به كأحياء جزء من الأرض الموات مثلاً، ومن أبرز مظاهر ملكية الدولة في الثروة: 1. الأرض التي دخلت دار الإسلام وكانت مواتاً حال الفتح. 2. الأرض التي دخلت دار الإسلام وكانت عامرة طبيعياً حال الفتح كالغابات مثلاً. وهكذا يتخذ المذهب الإسلامي في الإقتصاد ثلاثة محاور تعمل متفاعلة لتسيير دفة الحياة الإقتصادية في مجتمعه ولكن هذا التفاعل والإزدواج في عملها لا يفقد احدى هذه العمليات طبعها وتصميمها الأصيل وانما يبقى كل لون من ألوان التملك المذكور ملتزماً بشروطه ومبررات وجوده وفاعليته الإيجابية في حياة الفرد والجماعة بقدر ما يؤدي دوره في الحياة الإقتصادية على صعيد الإزدواج مع سائر ألوان التملك الأخرى. وهذا يمثل العلامة الفارقة التي تميز المذهب الإسلامي في الإقتصاد عن سواه من المذاهب الإقتصادية في الأرض، فأحد هذه المذاهب مثلاً يرتكز في توجيه النشاطات الإقتصادية على أساس الإختصاص المطلق في التملك، بينما يستند الآخر على الملكية العامة في تسيير شؤون الحياة الإقتصادية في دنيا الإنسان ولكن وجهة النظر الإسلامية هذه قد تجلت جدارتها وصوابها أخيراً بشكل عملي ملموس بعد الإستثناءات التي لجأت إليها المذاهب الإقتصادية التي تحتل مراكز التطبيق في واقع الحياة، فالمذهب الرأسمالي مثلاً قد أقرّ أخيراً لون من ألوان التأميم لبعض الشركات والمصالح الكبيرة في البلدان التي تتخذه منطقاً ومرتكزاً لنشاطاتها الإقتصادية والمذهب الإشتراكي هو الآخر قد اضطر إلى السماح للأفراد بالإختصاص بالتملك كما عليه الآن في بلد الإشتراكية الأم روسيا السوفيتية. وهكذا تأتي وجهة النظر الإسلامية لتبرهن على سلامة بنائها الفكري وصحة مرتكزها المذهبي الأصيل دون سائر مذاهب الأرض الإقتصادية. 3. مبدأالضمان الإجتماعي: الضمان الإجتماعي في الإسلام مظهر مشرق من مظهر العدالة الإجتماعية الإسلامية وهو رافد من روافد المنهج الإقتصادي في الإسلام، وعلى ضوئه يتجسد دور الفرد والمجتمع والدولة في إطار الإقتصاد الإسلامي واقعاً حياً. كما يتجلى واقع التلاحم الروحي والعاطفي الأصيل بين كافة قوى الأمة في الدولة الإسلامية مترجماً أروع معطيات التعاون والإنسجام بين أبناء النوع الإنساني، واطروحة الضمان الإجتماعي هذه التي يقدمها الإسلام في الواقع الحياتي تتخذ طابعين يسيران جنباً إلى جنب ومن ثم يلتقيان في مصب واحد ليمنحا الإنسان أجلى صورة للعدالة الإجتماعية تكفكف – في ظلالها- دموع المحرومين وتمنح للطبقات المسحوقة كرامتهم وحقوقهم وتروي ظمأهم وترفعهم إلى المستوى الإنساني الذي يليق بهم وهما: 1. أسلوب التكافل الإجتماعي: ما أن ينساب الإسلام الحنيف في كيان أمة من الأمم إلاّ ويغرس في ربوعها بذور الأخوة المطلقة بين كافة قطاعاتها فالناس في ظلال الإسلام يعيشون في إطار أخوة لا نظير لها في تاريخ الأمم والشعوب فلا طبقة ارستقراطية تتحكم بمصير الأمة ولا طبقة كهنوتية تلعب بمقدرات الشعب ولا أصحاب جاه وسلطان يتسنمون مركز الثقل في المجتمع المسلم دون سواهم، إنما يتفاعل النالس في إطار المنهج الإسلامي على نأي تام عن هذه العقبات فهم أخوة بلا تحفظ ولا حواجز «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». «من أصبح ولم يهتم لأمور المسلمين فليس منهم» «الناس سواسية كأسنان المشط» ومفاهيم الإسلام الإجتماعية التي يشيعها في مجتمعه كلها تعمل على ترسيخ مفهوم الأخوة بأجلى صورة، هذا المفهوم الذي يترجم أثرى المعطيات التي تنعكس على الصعيد الحياتي لهذا الإنسان وفي طليعة هذه المعطيات  -تلك- إشاعة مبدأ التكامل العام بين أفراد المجتمع الإسلامي، هذا المبدأ الذي يقضي بكفالة أفراد المجتمع بعضهم للبعض الآخر كفالة إقتصادية لسد عوزهم المالي والإستجابة لمطالبهم وضرورات حياتهم وهذه الوظيفة تشمل قطاعاً واسعاً من المجتمع فلوالدين والزوجة والأولاد والجيران هم العناصر الأساسية التي تنعم بهذا اللون من الكفالة المالية، فالوالد يكفل أولاده والأولاد يكفلون أباءهم وأمهاتهم والزوج يكفل زوجته والجار يكفل جاره كما إن من حق سائر المعوزين سوى هؤلاء كذلك أن يتفيؤوا ظلال هذا المبدأ –التكامل العام- ولكن على أساس الإستجابة لمطالبهم الضرورية فحسب دون الثانوية، إلاّ إن هذه المهمة التي أوكلت إلى المجتمع الإسلامي بم تتخذ الصيغة التطوعية قط وإنما هي ذات بعد إلزامي لا يسوغ الشرع التغاضي عنها أو التخلف أو النكول عن أدائها، فهي كالضرائب المفروضة سواءً بسواء مصداقاً لقول القائد محمد (ص) «أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله» «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع» «ما آمن بي من أمسى شبعاناً وأخوه المسلم طاوٍ» إلاّ أنها تمتاز بكونها تنبع من أعماق الإنسان المسلم ذاته، فالمسلم يندفع لأداء هذه المهمة ذاتياً دونما اكراه خارجي يفرض عليه هذا اللون من الإندفاع ولهذا كان تحمل الإنسان المسلم لمسؤوليته هذه يزداد حجماً باطراد كلما اتسعت مساحة إيمانه وإنشداده بالله واليوم الآخر، ومن هنا فإن للناحية الروحية آثرها البالغ  في تجسيد هذا المفهوم الإقتصادي على الصعيد الحياتي للإنسان المسلم، فلولا إحساس الإنسان بالمسؤولية أمام بارئه وراعيه سبحانه وتعالى وما ينجم عن النكول عن هذه المسؤولية من تخط لمناهج الرسالة وأبعادها، لولا هذا الشعور العميق لما قدم المسلم على تحمل هذا العبء طواعية دونما اكراه يفرض عليه من خارج كيانة الروحي والنفسي، وتأصيلاً لهذه الحقيقة راح الإسلام يعمل كل ما من شأنه على إشاعة مبادئ الإتصال الروحي بالله سبحانه وتعالى إستشعار مخافته والعمل على تحقيق رضوانه على ضوء العبادات كالصلاة والدعاء والصيام والأعمال المندوبة ونحو ذلك، وهكذا فإن التكافل الإجتماعي لا يتحقق إلاّ بالإستناد إلى التربية الروحية والإنشداد إلى الله سبحانه ومن ثم بإشاعة مفهوم الأخوة الإسلامية الحقة فإن هاتين الركيزتين تعتبران بحق التربة الخصبة التي ينبت فوق ثراها مفهوم التكامل الإجتماعي في إطار المجتمع الإسلامي ومن هنا جاء تصريح الإمام القائد عليه الصلاة والسلام محدداً أبعاد هذه الأطروحة الرائعة ومترجماً لها «أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره أقامه الله يوم القيامة مسوداً وجهه مزرقة عيناه مغلولة يداه إلى عنقه فيقال هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ثم يؤمر به إلى النار» إلاّ أن خاطرة جديرة بالذكر لا يجوز الإستغناء عن ذكرها هنا وهي أن أطروحة التكافل العام تعتبر من العلامات الفارقة التي تميز الإسلام على الصعيد الإقتصادي دون سواه من مذاهب الأرض فلئن كان المذهب الماركسي يعلن أعماله لشأن الضعفاء تطبيقاً لشعار من لا يعمل لا يأكل، ولئن كانت بظاهرات الفقراء والمحرومين تعج بها شوارع واشنطن مطالبين بتحسين أحوالهم ورفع كابوس الحرمان عنهم في بلد الديمقراطية والحرية الأم -كما يقولون- كل ذلك لتفشي روح الأنانية والإستئثار كمظهر من مظاهر شيوع فلسفة التركيز على الفرد بما تحمل هذه الفلسفة من روح الجفاف والأثرة، فإن الرسالة الإسلامية من جانبها قد اشاعت في نفوس مريديها بواعث الوداد والتعاون والتكافل وكل مبادئ التلاحم الروحي والنفسي في دنيا الإنسان، وفي مجتمعنا المعاصر – مع بعده عن الروح الإسلامية الأصيلة- نماذج رائعة من صور التكافل الإجتماعي التي يعمل الإسلام على تجسيدها في الأسرة والمجتمع كالتكافل في اطار الأسرة وإعانة المعوزين ونمو ذلك. 2. مبدأ كفالة الدولة: لكن الرسالة الإسلامية لم تدع مسألة الضمان الإجتماعي تسبح في فلك أخلاقي وعظي كما يظن وإنما أناطت بالدولة الإسلامية مسؤولية كفالة كافة المتمتعين بحق المواطنة الإسلامية وبحق التابعية للدولة الإسلامية كفالة إقتصادية وبصورة دستورية لا يسوغ الإسلام لدولته النكول عنها فهي من أولى الإلتزامات القانونية التي يجب على الكيان السياسي في نظر الإسلام أن يلتزم به ويعمل على تجسيده في واقع الإنسان المسلم وأن التلكؤ أو التخلف عن النهوض بهذا الإلتزام الطبيعي  يعتبر ظاهرة إنحراف في الجهاز الحاكم عن المسؤولية الملقاة على عاتقهِ توجب على المجتمع المسلم أن يسلك الأساليب المرسومة لتقديم سلوك القائمين بشؤون الحكم أو إستبدالهم أن لزم الأمر، وهذا اللون من الكفالة الرسمية إنما يتخذ مظاهر شتى. فالقادرون على العمل تعمل الدولة على إيجاد فرص العمل الذي يتماشى ورغباتهم جسدياً كان أَم فكرياً وذلك عن طريق المصانع والشركات والوظائف والمعاهد الدراسية والدورات التدريبية على شؤون العمل ونمو ذلك، وأصحاب الحرف والمهن المختلفة ممن لا توفر لهم مهنتهم المستوى المعاشي اللائق يجدر بالدولة الإسلامية أن تمدهم بالمال الذي يسد عوزهم الإقتصادي وفي السنة الشريفة تحديد لهذه المسألة: «إنّ الوالي يأخذ المال فيوجهه الوجه الذي وجهه الله له على ثمانية أسهم للفقراء والمساكين...». يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا ضيق ولا تقية، فإن فضل من ذلك شيء ولم يكتفوا به كان على الوالي أن يمولهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا وأما المرضى والشيوخ وأصحاب العاهات فلزاماً من العيش سواءً عن طريق مرتبات مالية أو عن طريق دور تعد لهذا الفرض وفي الأطروحة الدستورية التي قدمها الإمام القائد علي (ع) إلى عامله على مصر للعمل بمقتضاها ترجمة صادقة لهذا المبدأ «ثم الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمن» «وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة لهم» وهذه المهام الكبرى التي تضطلع الدولة الإسلامية بمسؤولية النهوض بأعبائها تعتبر إلتزامات قانونية تفرضها الرسالة الإسلامية ذاتها والدولة إنما تمارس هذه المهام من خلال البنود التشريعية التي تلزمها بالنهوض بها، والأصل التشريعي لهذه العملية التي تمارسها الدولة إنما يأتي من اعتبار الإنسان النوع القائم بحقّ الإستخلاف بثروة هذا الوجود وهذا الحقّ لا يختص بفئة من عباد الله دون أخرى «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا»(البقرة /29) وإنما هو حقّ عام لجميع الناس والدولة في المنطق الإسلامي تعمل على تيسير مهمة الإنتفاع بالثروة لكل المتمتعين تحق الموطنة الإسلامية من مسلمين وغيرهم قادرين على العمل أم فاقدين لعنصر القدرة عليه سواء بسواء –كما اتضح من النصوص الآنفة الذكر- لكن مسألة جدير بنا التأكيد عليها هنا وهي أن عدالة التوزيع في إطار الدولة الإسلامية غير مقسورة على جماعة دون أخرى فهي ليست من حقّ المسلم دون سواه وليس وقفاً على الأبيض دون الأسود مثلاً وإنما هي عدالة تتخطى الحدود القومية واللغوية والدينية والإقليمية «الناس سواسية كأسنان المشط» «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(الحجرات /13) «لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى» «إلاّ من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة». وهذا ما يعكس لنا بمنتهى الواقعية أن العدالة في توزيع الثروة تمتزج امتزاجاً عضوياً مع المساواة المطلقة بين جميع قطاعات الأمة التي تتمتع بحق التابعية للدولة الإسلامية. http://www.balagh.com