دورالشيعة في بناء الحضارة الإسلامية
دورالشيعة في بناء الحضارة الإسلامية
0 Vote
93 View
تمهيد إنّ الحديث عن دور الاِنسان في بناء الحضارة البشرية حديث ذو شجون لا يسع المرء وهو يتحدّث عنه إلاّ أن يتبيّـن بوضوح أثر العمق العقائدي في استقرار هذه الحضارات المتلاحقة والتي تركت ـ وبلا شكّ ـ لها بعض الآثار الدالّة عليها، وهذا العامل الداعم لقيام تلك الحضارات يكون وبلا أدنى ريب المفصل الاَساسي في هيكلية ذلك البناء الكبير. ولقد شهدت الحياة البشرية على هذا الكوكب (الاَرض) حضارات متعدّدة، لكلّ ميزاتها وخصائصها التيضبطها التاريخ، وأفصحت عنها الاكتشافات الاَثرية. ومن مشاهير هذه الحضارات: الحضارة الصينية، المصرية، البابلية، اليونانية، الرومانية، الفارسية، وأخيراً الحضارة الغربية القائمة في عصرنا الحاضر، ولكلّ من هذه الحضارات انطباعاتها الخاصة. وأمّا الحضارة الاِسلامية و التي تتوسّط بين الحضارة الاَخيرة (الغربية) وما تقدّمها فهي تعدّ بلا شكّ من أكبر الحضارات في تاريخ الاِنسان وأكثرها اهتماماً بالعلم والفلسفة والاَدب والفنون. وهي الاَساس الوطيد الذي قامت عليه حركة النهضة الاَوروبية. ولقد وضع عشرات من العلماء موسوعات وكتباً لبيان ما قدّمته الحضارة الاِسلامية من خدمات جليلة إلى المجتمع البشري في المجالات المختلفة. ولا يمكن لاَحد القول بأنّ الحضارة الاِسلامية حضارة عربية بحتة تفرَّد العرب في إقامة بنيانها وتثبيت أركانها، بقدر ما كانت تمثّل الجهد المتفاعل لجميع الشعوب الاِسلامية بقومياتها المختلفة من عرب وفرس وترك وغيرهم من القوميات، الذين ذابوا في الاِسلام ونسوا قوميّاتهم ومشخّصاتهم العنصرية والبيئية. ومن هنا فإنّ أيّ تعبير عن الحضارة التي سادت إبّان تلك الحقبة الزاهرة من حياة البلاد العربية وما يجاورها، فإنّ المراد به الاِشارة إلى الحضارة الاِسلامية بكلّ أبعادها وأُسس بنيانها، والتي شارك فيها جميع المسلمين، المخلصين لرسالة السماء التي جاء بها نبيّ الرحمة محمّد _ صلى الله عليه وآعله وسلم _. إنّ المسلمين الاَوائل وبفضل جهدهم المخلص في بناء حياة الاَُمم والشعوب، استطاعوا أن يقيموا للاِسلام حضارة عظيمة ورائعة مترامية الاَطراف كانت متوازية مع خطّ انتشار الدعوة الاِسلامية، فلا غرو أن تخفق راياتها في بقاع واسعة من العالم تمتد من حدود الصين شرقاً إلى المحيط الاَطلسي غرباً. بلى لقد استطاع المسلمون أن يقيموا حضارة حقيقية ترتكز على أُسس أخلاقية وعقائدية سماوية، ضربت جذورها في أعماق البناء الاِنساني واستطاعت أن تجعل منه وكما أراد خالقه له أن يكون خليفته في أرضه. وإذا كان «ويل دورانت» في كتابه الشهير «قصّة الحضارة» قد أشار إلى أنّ الحضارة تتألّف من عناصر أربعة، وهي: 1 ـ الموارد الاقتصادية. 2 ـ النظم السياسية. 3 ـ التقاليد الخلقية. 4 ـ متابعة العلوم والفنون. وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق؛ لاَنّه إذا ما أمن الاِنسان من الخوف تحرّرت في نفسه دوافع التضلّع وعوامل الاِبداع والاِنشاء، وبعدئذ لا تنفكّ الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها(1). فإنّ ما ذكره ذلك العالم الباحث من أُسس الحضارة وأركانها يرجع إلى تفسير ____________ (1) ويل دورانت، قصة الحضارة : 1: 3. الحضارة بالمعنى الجامع الشامل للحضارة الاِلهية والماديّة، وأمّا بالنظر إلى الحضارة المرتكزة على الاَُسس الدينية فمن أهمّ أركانها توعية الاِنسان في ظلال الاعتقاد بالله سبحانه واليوم الآخر، حتى يكون هو الدافع إلى العمل والالتزام بالسلوك الاَخلاقي والديني، فالحضارة المنقطعة عن التوعية الدينية حضارة صناعية لا إنسانية، وتمدّن مادّي وليس بإلهي. إنّ مؤسّس الحضارة الاِسلامية هو النبيّ الاَكرم _ صلى الله عليه وآعله وسلم _، وقد جاء بسنن وقوانين دفعت البشرية إلى مكارم الاَخلاق كما دفعتهم إلى متابعة العلوم والفنون، واستغلال الموارد الطبيعية، وتكوين مجتمع تسود فيه النظم الاجتماعية المستقيمة. ولا يشكّ في ذلك من قرأ تاريخ الاِسلام، وتاريخ النبيّ الاَكرم _ صلى الله عليه وآعله وسلم _، خصوصاً إذا قارن بين حياة البشرية بعد بزوغ شمس الاِسلام بما قبلها. ثمّ إنّ المسلمين شيّدوا أركان الحضارة الاِسلامية في ظل الخطوط التي رسمها النبيّ الاَكرم _ صلى الله عليه وآعله وسلم _ من خلال القرآن والسنّة، فأصبحت لهم قوّة اقتصادية، ونظم سياسية، وتقاليد دينية وخلقية، وأعطوا العلوم المختلفة جلّ اهتمامهم، فبرز منهم العديد من العلماء المتفوّقين والبارعين في شتّى مناحي العلم، ورفدوا حركة تطوّر الحضارة البشرية بجهودهم المخلصة، والتي تعكسها مؤلّفاتهم القيّمة والتي لا زالت حتّى يومنا هذا مثار إعجاب الجميع، بل إنّهم عمدوا إلى ترجمة كتب العلم المختلفة لدى غيرهم من الاَُمم، مثل الفرس واليونانيين وغيرهم، فأغنوا المكتبة الاِسلامية بسيل وافر من المؤلّفات القيّمة والمهمة. لقد شملت الحضارة الاِسلامية كلّ ميادين الحياة المختلفة، فلم تلق جلّ جهدها في جانب واحد من جوانب الرقيّ الحضاري دون غيره، بل شمل اهتمامها كلّ جوانب الحياة المختلفة، وتلك حقيقة لا يمكن لاَحد الاِغضاء عنها، فإذا كانت كلّ حضارة من الحضارات المعروفة قد تميّزت برقيّ في جانب واحد من الجوانب الحياتية، سواء الاقتصادي كان أو العسكري، فإنّ الحضارة الاِسلامية تتمتّع بمجموع هذه المميزات؛ فلم تترك ميزة دون أُخرى. والذي يطيب لنا هنا ذكر مشاركة الشيعة في بناء هذه الحضارة، خصوصاً فيما يتعلّق بالركن الرابع وهو متابعة العلوم والفنون، وأمّا الاَركان الثلاثة الباقية فغير مطلوبة لنا في هذا المقام؛ وذلك لاَنّ الموارد الاقتصادية شارك فيها المسلمون انطلاقاً من دوافعهم النفسية من خلال الاهتمام بالاَُمور التالية: 1 ـ التنمية الزراعية بجوانبها المختلفة. 2 ـ استخراج وصناعـة المعادن المختلـفة، مثل الذهب والفضـة والاَحجار الكريمة بأنواعها النفيسة المختلفة. 3 ـ إحداث القنوات المائية وبناء السدود. 4ـ الاهتمام بتطوير الثروة الحيوانية وتوسيعها. 5 ـ صناعة الاَلبسة والاَقمشة وغيرها. 6 ـ صناعة الورق وكتابة الكتب ونشرها في العالم. 7 ـ إيجاد المواصلات البريّة و البحريّة، وتنظيم حركة الملاحة، ومحاربة قطّاع الطرق واللصوص في البرّ والبحر. 8 ـ العناية الفائقة بالتجارة، وعقد الاتّفاقيات التجارية مع البلدان المجاورة. إلى غير ذلك ممّا يوجب ازدهار الوضع الاقتصادي، فلا يصح إبعاد قوم عن تلك الساحة وتخصيص الازدهار الاقتصادي بطائفة دون أُخرى؛ فإنّ الاِنسان حسب الفطرة والدافع الغريزي ينساق إلى ذلك. وأمّا النظم السياسية؛ فإنّ الدول الاِسلامية المختلفة قد ساهمت في إرساء دعائمها وتثبيت أركانها خلال سني حكمها، ولا فرق في ذلك بين دول الشيعة منها كالحمدانيين والبويهيين والفاطميين وغيرهم كالساميين والسلاجقة وغيرهم. وأمّا التقاليد الخلقية فقد كانت منبثقة من صميم الاِسلام، ومأخوذة من الكتاب والسنّة، كما أنّ التقاليد القومية للشعوب المختلفة، والتي لم تكن معارضة لمبادىَ الشريعة الاِسلامية السمحاء فقد فسح لها الاِسلام المجال ولم ينه عنها. فلاَجل ذلك نركّز على الركن الرابع منهذه الاَركان الاَربعة للحضارة، وهو متابعة العلوم والفنون، فهي الطابع الاَساسي للحضارة الاِسلامية، وبها تتميّز عمّا تقدّم عليها وما تأخّر، فنأتي بموجز عن دور الشيعة في بناء هذا الركن ـ أي ازدهار العلوموالفنونـليظهر أنّهمكانوا فيالطليعة، وكان لهم الدور الاَساسي في ازدهارها. ولمّا كانت الحضارة الاِسلامية تستمدّ أسباب وجودها من الكتاب والسنّة، فكلّ من قدّم خدمة للقرآن والسنّة لفظاً ومعنى، صورة ومادة، فقد شارك في بناء الحضارة الاِسلامية. وإليك هذا البيان تأييداً لما أسلفنا: لمصدر : دور الشــيعــة في بناء الحضارة الإسلامية ، تأليف : الشيخ جعفر السبحاني ص 3 ـ 7