آثار الدعاء في الدنيا والآخرة
آثار الدعاء في الدنيا والآخرة
0 Vote
119 View
مركز الرسالة
لقد اهتم الاَئمة من أهل البيت عليهم السلام بالدعاء اهتماماً بالغاً، ذلك لما يترتب عليه من آثار تعود لصالح الداعي في الدنيا والآخرة، فهو من أنجع الوسائل وأعمقها في تهذيب النفوس، وهو مفتاح الرحمة ونجاح الحاجة، وهو شفاء من كلِّ داء، وبه يردُّ القضاء ويدفع البلاء، ولا يدرك ما عند الله تعالى إلاّ بالدعاء والابتهال .
وقد حفلت كتب الدعاء الكثيرة بتراث غزير من أدعية أهل البيت عليهم السلام، التي تعتبر صفحة مشرقة من صفحات التراث الانساني، وذخيرة فذّة من ذخائر المسلمين، فهي من حيث الصياغة والبلاغة آية من آيات الاَدب الرفيع، ومن حيث المضمون فقد أودع الاَئمة عليهم السلام في أدعيتهم خلاصة المعارف الدينية، وهي من أرقى المناهل في الالهيات والاخلاق، وهي وسيلة لنشر تعاليم القرآن وآداب الاِسلام وبيان أدقّ أسرار التوحيد والنبوة والمعاد وغيرها من المضامين التي يترتب عليها آثار واضحة في تعليم الناس روحية الدين والزهد والاَخلاق .
وفيما يلي نبين بعض الآثار المترتبة على الدعاء في الدنيا والآخرة :
الف) الآثار العاجلة
وهي الآثار التي تعود لصالح الداعي في دار الدنيا، ويمكن حصرها بما يلي :
1ـ الدعاء مفتاح الحاجات
الدعاء باب مفتوح للعبد إلى ربّه سبحانه، يطلب من خلاله كل ما يحتاجه في الدنيا من زيادة الاَعمار وصحة الاَبدان وسعة الاَرزاق والخلاص من البلاء والغم، وذلك من أبرز القيم الرفيعة عند الاَنبياء والاَوصياء والصالحين، ومن أهم السنن المأثورة عنهم .
فقد كان خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام معروفاً بالدعاء والمناجاة، وقد روي عن الاِمام الباقر عليه السلام في قول تعالى : ( إنّ إبراهيمَ لاَوّاهٌ حليمٌ ) (1)أنّه قال عليه السلام : « الاَوّاه هو الدعّاء » (2).
وممّا جاء في الكتاب الكريم من دعاء الاَنبياء، قال تعالى : ( وأيوبَ إذ نادى ربّهُ أني مسَّني الضُّرّ وأنتَ أرحمُ الراحِمينَ * فاستجبنا لهُ فكشفنا ما به من ضُرٍّ وآتيناهُ أهلهُ ومِثلَهُم مَعهُم رحمةً من عِندنا وذكرى للعابدين ) (3).
وقال تعالى : ( وزكريا إذ نادى ربّهُ ربِّ لا تذَرني فرداً وأنت خيرُ الوارثين* فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا لهُ زوجهُ إنّهم كانوا يُسارِعُونَ في الخيرات ويدعُونَنا رَغَباً ورَهباً وكانُوا لنا خاشعين ) (4).
وجاء في وصية أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الاِمام الحسن عليه السلام : « واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والاَرض، قد أذن لك في الدعاء، وتكفّل لك بالاجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه.. فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته مالا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الاَعمار، وصحّة الاَبدان، وسعة الاَرزاق، ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته » (5).
2ـ الدعاء شفاء من الداء
الدعاء شفاء من كلِّ داء، ومن أوكد الاَسباب في إزالة الاَمراض المستعصية خصوصاً الاَمراض النفسية الشائعة في زماننا هذا، وقد أكدت البحوث الطبية أنّ الطب الروحي من أهم الاَسباب في تخفيف مثل هذه الاَمراض وإزالتها، والدعاء يقف على رأس مفردات الطب الروحي والعلاج النفسي .
على أن الدعاء وصفة طبية روحية مقرونة بالرحمة والشفاء للمؤمنين الموقنين، قال تعالى : ( ونُنَزّلُ مِن القُرآنِ ما هو شِفَاءٌ ورحمةٌ للمُؤمِنين ) (6).
عن العلاء بن كامل، قال : قال لي أبو عبدالله عليه السلام : « عليك بالدعاء، فإنّه شفاء من كلِّ داء » (7).
وعن الحسين بن نعيم، قال : اشتكى بعض ولد أبي عبدالله عليه السلام، فقال : « يا بني، قل : اللهمّ اشفني بشفائك، وداوني بدوائك، وعافني من بلائك، فاني عبدك وابن عبدك » (8).
والاَدعية الخاصة بعلاج الاَمراض المختلفة كثيرة، يمكن الوقوف على القدر الاَكبر منها في بحار الاَنوار للعلاّمة المجلسي رضي الله عنه (9).
3ـ الدعاء ادخار وذخيرة
ومن آثار الدعاء إذا واظب عليه العبد في حال الرخاء أنّه يكون له ذخيرة لاستخراج الحوائج في البلاء .
قال الاِمام الصادق عليه السلام : « إنّ الدعاء في الرخاء يستخرج الحوائج في البلاء » (10) .
4ـ الدعاء يهذب النفس
الدعاء من أهم العوامل التي تسهم في بناء الاِنسان المؤمن، لما فيه من العبودية المطلقة للواحد الحق، التي تكسب الداعي النقاء والصفاء وخشوع القلب ورقته، وتصنع منه ذاتاً متواضعة لله تعالى، محبة للخير، ومصدراً للمعروف، وتبعاً لفيض البركات، فيصل بتلك النفس إلى درجات المتقين .
والدعاء سلم المذنبين الذي يعرجون به إلى آفاق التوبة، حيث يخلون بربهم، ويبوءون بذنوبهم، وينزلونها عنده، ليخفف من غلواء نفوسهم المكبلة بالذنوب، فهو السبب الذي يوصلهم إلى درجات الطاعة والفضيلة، لينالوا درجة الاِنسانية الكريمة، ويهذّبوا نفوسهم، ويفلحوا بسعادة الدارين .
قال الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام : « الدعاء مفاتيح النجاح، ومقاليد الفلاح » (11).
واذا تطلعنا في مفردات التراث الغزير الذي تركه لنا أئمة أهل البيت عليهم السلام في مجال الدعاء، ولا سيما فيما روي عن الاِمام زين العابدين عليه السلام في أدعية الصحيفة السجادية، فسنرى أنها تزخر بثروة كبيرة من النماذج التي تثير مفاهيم الحياة الفردية والاجتماعية على المستوى الاخلاقي وتحديد مكام الاَخلاق وخطوطها التفصيلية، وعلى المستوى التربوي في تحديد مفاهيم التربية الاِسلامية وتهذيب النفس وصفائها، وتنمية نزعاتها الخيرة، وردعها عن غيّها، وترويضها على طلب الخير.
وخير مثال على ذلك هو دعاء الاِمام زين العابدين عليه السلام في مكارم الاَخلاق ومرضيّ الاَفعال الذي جاء فيه : « اللهمّ صلِّ على محمد وآل محمد، ومتّعني بُهدىً صالحٍ لا أستبدل به، وطريقة حقٍّ لا أزيغ عنها، ونيّة رشدٍ لا أشكّ فيها... اللهمّ لا تدع خصلة تعاب منّي إلاّ أصلحتها، ولاعائبةً أُونّب بها إلاّ حسّنتها، ولا أُكرومةً فيّ ناقصةً إلاّ أتممتها.. »(12)
5ـ الدعاء سلاح المؤمن
الدعاء سلاح ذو حدّين، فهو من جانب سلاح في مواجهة هوى النفس الاَمارة ومطاردة شهواتها، ومواجهة الشيطان وغروره، وحبُّ الدنيا وزخرفها، وهذا هو حدّ الانتصار على النفس، الذي يؤدي إلى تهذيبها والارتفاع بها إلى درجات الصالحين، ومن جانب آخر فإنّ الدعاء عدّة المؤمن لمواجهة أعدائه، وهو السلاح الذي يشهره في وجه الظالمين .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السموات والاَرض » (13) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم، ويدرّ أرزاقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم : تدعون ربكم بالليل والنهار، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء » (14).
وقال الاِمام أمير المؤمنين عليه السلام : « الدعاء ترس المؤمن » (15).
ولقد اتخذ الاَنبياء والاَوصياء والصالحون من الدعاء سلاحاً يقيهم شرور أعدائهم من الكافرين والمتمردين .
قال الاِمام الرضا عليه السلام لاَصحابه : « عليكم بسلاح الاَنبياء، فقيل : وما سلاح الاَنبياء ؟ قال عليه السلام : الدعاء » (16).
وفي الكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة أمثلة كثيرة لآثار الدعاء في ردّ كيد الاَعداء والانتصار عليهم.
قال تعالى : ( ونُوحاً إذ نادى مِن قَبلُ فاستَجَبنا لَهُ فَنَجّيناهُ وأهلَهُ مِنَ الكَربِ العظيم * ونَصرناهُ مِنَ القومِ الذين كذَّبوا بآياتِنا إنّهُم كانوا قومَ سُوءٍ فأغرقناهُم أجمعين ) (17).
ولما اشتدّ الفزع بأصحاب طالوت لكثرة العدد والعدة في صفّ جالوت وجنوده، دعوا الله متضرعين، قال تعالى : ( وَلما بَرزوا لجالُوتَ وجُنُودِهِ قَالُوا ربَّنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وأنصُرنا على القومِ الكافرين* فهَزَمَوهُم بإذنِ اللهِ ) (18).
وفي بدر حيث التقى الجمعان، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربّه واستنصره متضرعاً إليه حتى سقط رداؤه (19)، فأنجز له الله تعالى ما وعده، وأمدّه بألف من الملائكة مردفين، ولاحت بشائر الانتصار، قال تعالى : ( إذ تستَغيثُونَ ربَّكُم فاستجابَ لكُم أني مُمدُّكُم بألفٍ من الملائكة مُردفينَ ) (20).
وعندما دخل الاِمام الصادق عليه السلام على المنصور العباسي، الذي توعّده بالقتل، دعا الاِمام عليه السلام ربّه متوسلاً إليه للخلاص من الشرِّ والعدوان، قال عليه السلام: « يا عدتي عند شدتي، ويا غوثي عند كربتي، احرسني بعينك التي لاتنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام » (21).
ولمّا عزم موسى الهادي بن المهدي العباسي على قتل الاِمام الكاظم عليه السلام بعد مقتل الحسين بن علي بن الحسن صاحب فخ رضي الله عنه، دعا الاِمام الكاظم عليه السلام ربّه للخلاص من شرّه وظلمه، فمات الهادي بعد الدعاء بأيام (22) .
ولمّا تمادى المتوكل بالظلم والعدوان، دعا عليه الاِمام الهادي عليه السلام، فقتل المتوكل بعد ثلاثة أيام على يد ابنه المنتصر وبغا ووصيف وجمع من الاَتراك (23).
6ـ الدعاء تلقين لاُصول العقيدة
إذا تأملنا الاَدعية المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام نجد أنّها تمثّل مدرسة لتعليم العقيدة الاِسلامية والانفتاح على جميع مفرداتها، حيث يستحضر الداعي في وعيه توحيد الخالق وصفاته ومشيئته وارادته وعلمه وقضاءه وقدره، ويتحدث عنها بطريقة ايحائية تحرك الاَصل الاَول من أصول العقيدة في الروح، وتعمّق إحساسها بخالقها جلَّ وعلا في حالةٍ من التقاء الفكر والشعور، تحقق وضوح الرؤية وحصول اليقين، حينما يجد المؤمن ربه قريباً فيناجيه، ومحيطاً به فيدعوه، ويجد نفسه محتاجاً فيعطيه .
ومن الاَدعية التي تتضمن الاَصل الاَول من أصول العقيدة الاِسلامية، دعاء الاِمام السجاد عليه السلام في الصحيفة السجادية، قال عليه السلام : « الحمدُ لله الاَول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين... » (24).
والنبوة من مفردات المضمون العقيدي التي يجدها الاِنسان ظاهرة في الدعاء، حيث الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومسؤوليته إزاء الرسالة، بشكل يعمّق علاقة الداعي الروحية بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويعزز فهمه لاَبعاد شخصيته ومكارم أخلاقه وإخلاصه لله، ودوره في تبليغ الرسالة وتجسيد معانيها، ووصيّته بالاِمامة لمن بعده، باعتبارها الامتداد الطبيعي للنبوة، وبيان مهمتها في اقامة مبادىء الدين والكتاب الكريم والحفاظ على السُنّة المباركة، وبيان صفات الاِمام ومكارم أخلاقه وفضائله ودلائله .
وكان من دعاء الاِمام الكاظم عليه السلام المعروف بدعاء الاعتقاد : « ... اللهمّ إنّي أقرُّ وأشهدُ، واعترفُ ولا أجحدُ، وأُسرُّ وأُظهرُ، وأعلنُ وأبطنُ، بأنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنّ عليّاً أمير المؤمنين، وسيّد الوصيين، ووارث علم النبيين.. إمامي ومحجّتي، ومن لا أثق بالاَعمال وإن زكت، ولا أراها منجيةً لي وان صلحت إلاّ بولايته والائتمام به والاقرار بفضائله..
اللهمّ وأقرُّ بأوصيائه من أبنائه أئمةً وحججاً وأدّلةً وسُرجاً، وأعلاماً ومناراً، وسادة وأبرار...
اللهمّ فادعني يوم حشري وحين نشري بإمامتهم، واحشرني في زمرتهم، واكتبني في أصحابهم، واجعلني من إخوانهم، وانقذني بهم يا مولاي من حرِّ النيران... » (25).
وأكثر ما يلاحظ الداعي في التراث العريق لاَهل البيت عليهم السلام هو التذكير باليوم الآخر، واستحضار الموقف بين يدي الله تعالى عندما يقوم الناس لربِّ العالمين، حيث شمول الحساب ودقته لكلِّ ما قام به الاِنسان في حياته مع التذكير بالجنة ونعيمها الخالد الذي أعده الله تعالى للمؤمنين المتقين، وبالنار وعقابها المقيم الذي أعده الله للكافرين المتمردين .
وجميع أدعيتهم عليهم السلام تلهج بنغمة توحي بالخوف من عقاب الله تعالى والرجاء في ثوابه، وأغلبها تصلح شواهد على ذلك، وقد جاءت بأساليب بليغة تبعث في قلب المتدبر الرعب والفزع من الاقدام على المعصية .
7 ـ الدعاء يردُّ القضاء ويدفع البلاء
الدعاء من أقوى الاَسباب التي يستدفع بها البلاء ويكشف بها السوء والضرُّ والكرب العظيم، قال تعالى : ( أمّن يُجِيبُ المضطرَّ إذا دعاهُ ويكشفُ السُّوءِ ) (26).
وقال تعالى : ( وأيوبَ إذ نادى ربَّهُ أني مَسَّني الضُرُّ وأنتَ أرحمُ الرَّاحمين* فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرٍّ ) (27).
وقال تعالى : ( ونُوحاً إذ نادى من قبلُ فاستجبنا لهُ فنجّيناهُ وأهلَهُ من الكربِ العظيم ) (28).
فبالدعاء يرد القضاء ويصرف البلاء المقدّر، وبذلك وردت الاَحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ادفعوا أبواب البلاء بالدعاء » (29).
وروى زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال : قال لي : « ألا أدلّك على شيءٍ لم يستثنِ فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قلتُ : بلى، قال : الدعاء يردُّ القضاء وقد أبرم إبراماً » وضمّ أصابعه (30).
وروى ميسر بن عبدالعزيز، عن الاِمام الصادق عليه السلام، قال : قال لي : «ياميسر، ادعُ ولا تقل إنّ الاَمر قد فرغ منه، إنّ عند الله عزَّ وجلّ منزلة لا تنال إلاّ بمسألة » (31).
وعنه عليه السلام، قال : « إنّ الدعاء يردُّ القضاء، ينقضه كما ينقض السلك وقد أُبرم إبراماً » (32) .
وقال الاِمام أبو الحسن موسى الكاظم عليه السلام : « عليكم بالدعاء، فإنّ الدعاء لله والطلب إلى الله يردُّ البلاء وقد قدّر وقضي ولم يبقَ إلاّ إمضاؤه، فإذا دعي الله عزَّ وجلّ وسُئل صرف البلاء صَرَفه » (33).
وأحاديث هذا الباب كثيرة، نكتفي بهذا القدر للدلالة على صحة دفع الضرر ورد القضاء والبلاء بالدعاء والتضرّع والاقبال إلى الغفور الرحيم بقلب يملؤه الاخلاص ويعمره الاِيمان .
وإلى هذا الحد تنتهي الآثار المترتبة على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في دار الدنيا، وللدعاء مضامين كثيرة تترتب عليها آثار أُخرى لا يمكن الاحاطة بها في هذه الرسالة، ويمكن مراجعتها في كتاب بحار الاَنوار للعلاّمة المجلسي رضي الله عنه (34).
وفيما يلي نتعرض للردّ على الشبهة القائلة بمنافاة الدعاء مع الاعتقاد بالقضاء والقدر .
الدعاء والقضاء والقدر
هناك تساؤلات كثيرة حول منافاة الدعاء مع الاعتقاد بالقضاء والقدر، وأول ما يتبادر إلى الذهن هو قول اليهود المعبّر عنه في قوله تعالى : (وقالتِ اليهودُ يَدُ اللهِ مغلُولةٌ غُلَّت أيديهم ولُعنُوا بما قالُوا بل يداهُ مبسوطَتانِ يُنفقُ كيفَ يشاءُ ) (35).
قال اليهود : (إنّ الله لما خلق الاَشياء وقدّر التقادير، تمّ الاَمر وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتّمه من القضاء، فلا نسخ ولا استجابة لدعاء ؛ لاَنّ الاَمر مفروغ منه) (36).
وقد تسرّب هذا الاعتقاد في جملة ما تسرب من معتقدات اليهود والاسرائيليات إلى التراث الاِسلامي العريق الذي ينبذ بوضوحه وإشراقه كل وافدٍ غريب لا يمتُ إلى الدين القويم وشرعة الاِسلام الحنيف بصلة .
وكان من جملة الاِثارات حول هذا الموضوع، أن قالوا : (إنّ المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى، كان واجب الوقوع، فلاحاجة إلى الدعاء، وإن كان غير معلوم الوقوع، كان ممتنع الوقوع، فلاحاجة أيضاً إلى الدعاء) (37).
وقالوا : (المدعو إن كان قدراً، لم يكن بدّ من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قدراً لم يقع سواء سأله العبد أم لم يسأله ) (38).
ومع وضوح الاِجابة عن مثل هذه التساؤلات من خلال محكمات الكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة على ما سيأتي بيانه، إلاّ أن البعض ظنَّ بصحتها، فتركوا الدعاء وسائر أعمال البرّ، لاعتقادهم بأن للاِنسان مصيراً واحداً لا يمكن تغييره ولا تبديله، وأنه ينال ما قُدّر له من الخير أو الشرّ .
ولا شكّ أن ذلك ناشىء عن فرط جهلهم بظنهم أن الدعاء أمرٌ خارج عن نطاق القضاء والقدر وبعيد عن الحكمة الالهية، والواقع أن الدعاء واجابته من أجزاء القضاء والقدر، وأن المقدَّر معلّق بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، ومتى أتى العبد بالسبب وقع المقدَّر، وإذا لم يأت بالسبب انتفى المقدَّر، ويعتبر الدعاء من أقوى الاَسباب، وليس شيء من الاَسباب أنفع منه ولا أبلغ في حصول المطلوب، لما ورد في فضله من آيات الكتاب وصحيح الاَثر، فإذا قدّر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء .
وفيما يلي نجيب عن هذه الشبهة بشيءٍ من التفصيل :
علمه تعالى
قيل : إنّ تغيير مصير الاِنسان بالدعاء وغيره من أعمال البر يقتضي التغيير فيما قدّره الله تعالى في علمه الاَزلي، وذلك يعني تغيير علمه تعالى، وهو محال .
نقول : إنّ الله تعالى عالم بمصير الاَشياء كلّها غابرها وحاضرها ومستقبلها، وعلمه هذا أزلي قديم لا يتصور فيه الظهور بعد الخفاء ولاالعلم بعد الجهل، قال تعالى : ( إنّ اللهَ لا يخفى عليهِ شيءٌ في الاَرضِ ولا في السَّماءِ ) (39).
وقال الاِمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام : « لم يزل الله عالماً بالاَشياء قبل أن يخلق الاَشياء، كعلمه بالاَشياء بعد ما خلق الاَشياء » (40).
أم الكتاب ولوح المحو والاثبات
إنّ لعلمه تعالى مظاهر عبّر عنها في الكتاب الكريم، منها أُمّ الكتاب، وهذا المظهر يعبر عن علمه الاَزلي المحيط بكلِّ شيء، والذي هو عين ذاته، لا يتطرق إليه التغيير والتبديل، قال تعالى : ( وإنَّهُ في أُمِّ الكتابِ لدينا لعليٌّ حكيمٌ ) (41)، وفي أمُّ الكتاب التقدير القطعي الذي يشتمل على جميع السنن الثابتة الحاكمة على الكون والاِنسان .
والمظهر الآخر من علمه تعالى هو المعبّر عنه بلوح المحو والاثبات، ولله تعالى فيه المشيئة يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء حسب ما تقتضيه حال العباد من حسن الاَفعال أو قبحها التي تؤدي بالانسان إلى السعادة أو الشقاء، قال تعالى : ( يمحُو اللهُ ما يشاءُ ويُثبتُ وعندَهُ أمُّ الكتابِ ) (42).
قال الاِمام أبو جعفر الباقر عليه السلام : « من الاُمور أمور محتومة جائية لامحالة، ومن الاُمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء، ويثبت منها ما يشاء » (43).
وفي لوح المحو والاثبات يكتب التقدير الاَول، ولكنه يُعلّق بتحقق شرطه أو زوال مانعه، أي إنّه موقوف على أعمال العباد، فالدعاء والذكر والصدقة وصلة الاَرحام وبر الوالدين واصطناع المعروف، تحوّل شقاء الاِنسان إلى سعادة، بأن تُنسىء في أجله وتقيه مصارع الهوان وتدفع عنه ميتة السوء وتزكي أعماله وتنمي أمواله، وما إلى ذلك من الآثار الكثيرة الحسنة الواردة في الكتاب الكريم والحديث الصحيح .
وعلى العكس من ذلك فان اقتراف الذنوب وارتكاب السيئات كقطيعة الرحم وعقوق الوالدين وسوء الخلق وغيرها تحوّل مصير الاِنسان من السعادة إلى الشقاء، قال تعالى : ( إنَّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بقومٍ حتى يُغيّرُوا ما بأنفُسِهِم ) (44).
والتغيير الذي في لوح المحو والاثبات لا يمسّ بكامل علم الله تعالى، فليس هو انتقال من عزيمة إلى عزيمة، وليس هو حصول للعلم بعد الجهل، وليس هو معارضاً للتقدير الاَول، بل إنّ الله تعالى عالم بما يؤول إليه مصير الاِنسان في لوح المحو والاثبات، والظهور بعد الخفاء هو بالنسبة لنا، لا إلى علمه تعالى المحيط بكلِّ شيء، وذلك كالنسخ في التشريع الذي لا يختلف عليه أهل العدل .
قال الاِمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : (يمحُو اللهُ ما يشاءُ ويُثبتُ وعندهُ أمُّ الكتابِ) : « فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إنّ الله لا يبدو له من جهل » (45).
وقال عليه السلام : « من زعم أن الله عزَّ وجلّ يبدو له في شيء لم يعلمه أمس، فأبرؤوا منه» (46).
ومما تقدم تبين أن الاِنسان لم يكن محكوماً بمصير واحد مقدور غير قابل للتغير والتبديل، بل أنّه يستطيع أن يغير مصيره لكي ينال سعادة الدارين بحسن أفعاله وصلاح أعماله، ومنها الدعاء والتضرع، وقد صحّ عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه أنّه قال : «لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر» (47).
وهذا مما يبعث الرجاء في القلوب المظلمة كي تشرق بنور الاِيمان، ويوقد النور في أفئدة المذنبين، فلا ييأسوا من روح الله، ويسعوا للخلاص بالدعاء والتضرع والذكر وسائر أعمال البر، فإنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وكل يوم هو في شأن، ويداه مبسوطتان بالرحمة والمغفرة .
والقول بسيادة القدر على اختيار الاِنسان في مجال الطاعة والمعصية قول بالجبر الباطل بمحكمات الكتاب والسُنّة والعقل، وهو يقضي إلى القول بتعطيل جميع الاَساب وإلغاء إرسال الرسل وإنزال الكتب، وإلى بعث اليأس والقنوط في النفوس، فيستمر الفاسق في فسقه والظالم في ظلمه والمذنب في ذنبه، وذلك خلاف مشيئة الله وحكمته القاضية بأثر الدعاء في رد البلاء، والتوبة في طلب المغفرة والرحمة، وصلة الاَرحام في طول الاَعمار، وهكذا إلى آخر أعمال البر وصنائع المعروف .
ب) الآثار الآجلة
بالدعاء ينال ما عند الله تعالى من الرحمة والمغفرة والنجاة من العذاب في الآخرة، وذلك من أبرز آثار الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه ؛ لاَنّ عطاء الآخرة دائم مقيم لا نفاد له .
قال الاِمام الصادق عليه السلام : « أكثروا من أن تدعوا الله، فإنّ الله يحبُّ من عباده المؤمنين أن يدعوه، وقد وعده عباده المؤمنين الاستجابة، والله مصيّر دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملاً يزيدهم في الجنة (48).
وقال عليه السلام : « عليكم بالدعاء، فإنّ المسلمين لم يدركوا نجاح الحوائج عند ربهم بأفضل من الدعاء والرغبة إليه والتضرع إلى الله والمسألة، فارغبوا فيما رغبكم الله فيه، وأجيبوا الله إلى ما دعاكم لتفلحوا وتنجوا من عذاب الله » (49).
المصدر: الدعاء، حقيقته، آدابه و آثاره؛ مركز الرسالة / صص: 94 – 113
1. سورة التوبة : 9 / 114 .
2. الكافي 2 : 338 / 1 .
3. سورة الانبياء : 21 / 83 ـ 84 .
4. سورة الاَنبياء : 21 / 89 ـ 90 .
5. نهج البلاغة : الرسالة (31) .
6. سورة الاسراء : 17 / 82 .
7. الكافي 2 : 341 / 1 .
8. الكافي 2 : 411 / 3 .
9. بحار الانوار 95 : 6 ـ 122 .
10. الكافي 2 : 343 / 3 .
11. الكافي 2 : 340 / 2 .
12. الصحيفة السجادية ـ الدعاء رقم (20) .
13. الكافي 2 : 339 / 1، وعيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 37 / 95 .
14. الكافي 2 : 240 / 3 .
15. الكافي 2 : 340 / 4 .
16. الكافي 2 : 340 / 5 .
17. سورة الانبياء : 21 / 76 ـ 77 .
18. سورة البقرة : 2 / 250 ـ 251 .
19. راجع دلائل النبوة للبيهقي 3 : 50 ـ 51 .
20. سورة الانفال : 8 / 9 .
21. عدة الداعي : 62 .
22. راجع الدعاء في مهج الدعوات : 319، والأمالي للشيخ الطوسي 2 : 35 .
23. راجع الدعاء في مهج الدعوات : 265 .
24. الصحيفة السجادية : الدعاء رقم (1) في التحميد لله عزَّ وجلّ والثناء عليه .
25. مهج الدعوات : 233 .
26. سورة النمل : 27 / 62 .
27. سورة الانبياء : 21 / 83 ـ 84 .
28. سورة الانبياء : 21 / 76 .
29. قرب الاسناد : 55 .
30. الكافي 2 : 341 / 6 .
31. الكافي 2 : 338 / 3 .
32. الكافي 2 : 340 / 1 . وسائل الشيعة 7 : 36 / 4 .
33. الكافي 2 : 341 / 8 . وسائل الشيعة 7 : 36 / 1 .
34. راجع بحار الأنوار 95: 124 ـ 347 .
35. سورة المائدة : 5 / 64 .
36. تفسير الميزان 2 : 32 .
37. تفسير الرازي 5 : 98 .
38. الجواب الكافي : 15 .
39. سورة آل عمران : 3 / 5 .
40. الكافي 1 : 83 / 4 .
41. سورة الزخرف : 43 / 4 .
42. سورة الرعد : 13 / 39 .
43. بحار الانوار 4 : 119 / 58 .
44. سورة الرعد : 13 / 11 .
45. سورة الرعد : 13 / 39 .
46. بحار الانوار 4 : 121 / 63 .
47. مستدرك الحاكم 2 : 350 .
48. الكافي 8 : 7 / 1 .
49. الكافي 8 : 4 / 1 .
http://www.darolhadith.com