الإسلام والعلمانية

إن العلمانية تضع حق التشريع والحاكمية بيد الإنسان ، والإسلام يعتبر هذا الحق مختصاً بالله سبحانه وتعالى ، فهو المالك والحاكم الأصلي ، ولا يحق لأي إنسان بدون إذنه أن يمتلك حق الحاكمية والتشريع . وفكرة العلمانية قائمة على أساس أن الدين مجرد علاقة فردية بين الإنسان وربِّه ، فإذا أثبتنا أن الدين عبارة عن مجموعة من القوانين الاجتماعية التي تضمن سعادة الإنسان مادياً وروحياً سيبطل حينئذٍ هذا الإدعاء . ولكي نبحث هذه المسألة من وجهة نظر الإسلام نقول : في الرؤية التوحيدية الإسلامية لا يحق للسلطات الثلاث ( التشريعية ، القضائية ، التنفيذية ) بأي شكل من الأشكال التصدي لتنفيذ القوانين إلا بإذن الله ، كما لا يخفى أن الإسلام وضع قوانين شاملة لجميع شؤون الإنسان الفردية والاجتماعية . وهناك آيات وروايات كثيرة تثبت ذلك ، منها : 1 - الرجوع إلى كتاب الله لحل الاختلافات ، قال تعالى : ( كانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحكُمَ بَينَ النَّاسِ فِيمَا اختَلَفُوا فِيهِ ) البقرة : 213 . 2 - ذم كل من يقوم بوضع القوانين والأحكام بدون إذن الله ، يقول عز وجل : ( قُل أَرَأَيتُم مَا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِن رِزقٍ فَجَعَلتُم مِنهُ حَرَاماً وَحَلالاً آلله أَذنَ لَكُم أَم عَلَى اللهِ تَفتَرُونَ ) يونس : 59 . 3 - التأكيد على الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بأن يحكم بين الناس بما أمره الله به ، فيقول تعالى : ( وَأَنِ احكُم بَينَهُم بِمَا أَنزَلَ الله وَلا تَتَّبِع أَهوَاءَهُم ) المائدة : 49 . 4 - ورد في كثير من الآيات أن كل من لا يحكم بما أنزل الله فهو كافر أو ظالم أو فاسق ، فقال الله عز وجل : ( وَمَن لَم يَحكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ) ( الظَّالِمُونَ ) ( الفَاسِقُونَ ) المائدة : 44 ، 45 ، 47 . 5 - آيات اعتبرت حق التشريع لله وحده ، فمنها قوله تعالى : ( إِنِ الحُكم للهِ ) الأنعام : 57 ، يوسف : 40 ، 67 . 6 - آيات كثيرة تشير إلى أن الله هو الربُّ ، والربوبية تعني الحق المطلق للرب في التصرف بمربوبه . وهذا الحق إذا كان متعلقاً بنفس المربوب فهو ربوبية تكوينية ، أي أن الرب له حق التصرف بمربوبه كيف يشاء ، وأما إذا كان متعلقاً بالأوامر والقوانين التي يضعها فهو ربوبية تشريعية . فتبين أن الربوبية نوعان : تكوينية ، وتشريعية ، وكل من أنكر الربوبية التشريعية فقد افتقد أول مرتبة من مراتب الإسلام ، لأن نصاب التوحيد الضروري لإسلام الفرد هو التوحيد في الخالقية والربوبية بنوعيها التكويني والتشريعي . ومن أجل ذلك اعتبر القرآن الكريم إبليس كافراً بالرغم من إيمانه بالله خالقاً ، وبالربوبية التكوينية والمعاد ، إلا أنه أنكر الربوبية التشريعية وعصى أمر الله . وفي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذا المعنى ، منها العتاب واللوم الذي وجهه الله تعالى لليهود والنصارى بقوله : ( اتَّخّذُوا أَحبَارَهُم وَرُهبَانَهُم أَربَاباً مِن دُونِ الله ) التوبة : 31 . والحقيقة أنهم كانوا مؤمنين بالله ، لم يخالفوا الربوبية التكوينية ، إلا أنهم حوَّلوا أمر التحليل والتحريم لأنفسهم ، فأنكروا بذلك الربوبية التشريعية لله سبحانه وتعالى . وقد أشار القرآن الكريم إلى نفس هذا المعنى في آيات أخرى ، منها قوله : ( وَلا يَتَّخِذُ بَعضَنَا بَعضاً أَربَاباً مِن دُونِ الله ) آل عمران : 64 . وقد فسرت بعض الرويات هذه الآية بأن أهل الكتاب كانوا يعتقدون بأن لأحبارهم ورهبانهم حق التصرف في أمر الدين ، وليسوا مجرد مبلغين لأحكام الله تعالى ، وهذا لا يتفق مع ما يعتقد به المسلمون لأنهم كما ينسبون الخِلقة والتكوين لله كذلك ينسبون إليه التشريع ، فلا يحق لأحد أن يشرع القوانين في مقابل الله سبحانه وتعالى . واستناداً إلى ذلك تكون الربوبية بقسميها من وجهة نظر الإسلام منحصرة بالله وحده ، وأن الربوبية التشريعية يجب أن تغطي كل شؤون المجتمع وإدارته . وبهذا يتضح أن للإسلام نظماً وقوانين اجتماعية شاملة ، تبدأ من الأمور البسيطة إلى العلاقات الدولية ، ولهذا لا يمكن أن تنسجم العلمانية مع الإسلام لأنها فصلت الدين عن قضايا أساسية وحياتية . وإن من الأسباب التي أدت إلى شيوع العلمانية في الغرب هو تحاشي الاختلاف بين ما يريده الدين وبين ما يريده الناس ، فظنوا أن الدين مكانه الكنيسة ، ولا يحق له التدخل في المسائل الاجتماعية والحقوقية . إلا أن هذا الاعتقاد لا ينسجم مع الرؤية الإسلامية لأن الفرد المسلم لا يمكنه الاعتقاد بالحرية المطلقة في القضايا الاجتماعية على أساس هذه الرؤية .