التقيّة في جذورها الفطريّة

من الممارسات المسلَّمة في حياة الكائن البشري أن يتّقي ما يَحذَر. وهذا هو منطلق « التقية » في أصلها الفطري الذي غدا من وَفرتِه وشيوعه أشبه بالبديهات التي لا نقاش في جوهرها. وهذا الاتّقاء مما يُحذَر ـ كما له تعدّد في الصور والمصاديق ـ له اتّساع في نطاق ميادينه وآفاق ظهوره. والاتقاء هذا كما هو حَذَر على النفس وخشية ممّا يضرّ، هو كذلك حذر على الآخرين أن يصيبهم أذى من أي لونٍ كان. والتأمل في مشاهد من حياة الكائنات البريّة والبحريّة وسواها يوقف المرء على عجائب من صنع الله تبارك وتعالى وتدبيره أمورَ هذه الكائنات. ويُدهِش المرءَ أنّ من هذه العجائب أن يمارس كثير من هذه المخلوقات الاتقاءَ والحذر، بأن يصطبغ ظاهرها بصبغة البيئة التي تحيا فيها فلا تميّزها العين؛ دفاعاً عن النفس من أخطار المفترسات، أو أسلوباً للتخفّي والاستتار، بُغيةَ إيهام الفريسة حتّى تحين لحظة الهجوم والانقضاض. إنّ هذا التخفّي ـ بنوعيه الدفاعي والهجومي ـ إنّما هو ضرب من ضروب الاتقاء، أو قُل: ضرب من ضروب « التقية » الطبيعية الفطرية الشائعة في عالَم الخلق. وإذا تذكّرنا أنّ التقية بحذرها من « الآخَر » على النفس أن تُصاب أو تُباد أو تُمنَع من الوصول إلى الهدف، وبحذرها ـ في سياق مختلف ـ على « الآخَر » أن يُؤذى أو ينكسر أو يَفنى... وجدنا في عمل الأنبياء ـ حين نقرأ أخبارهم عليهم السلام ـ من هذه « التقية » الشيءَ الكثير. وقد لخّص هذا رسولُ الله صلّى الله عليه وآله بقوله: « إنّا ـ معاشرَ الأنبياء ـ أُمِرنا أن نكلّم الناس على قَدْر عقولهم »(1). غاية ما في الأمر أن التقية ينبغي أن تكون في موضع التقية، وفق معيار الحكمة الإلهية والأدب الإلهي في سياق العمل للإبلاغ وبلوغ الغايات، في حين ثمة موارد أخرى من أعمال الأنبياء والأوصياء يتبدّى فيها الجهر بكلمة الحق والظهور بالموقف دونما مواربة واتقاء. وهذا أيضاً في مواضعه الخاصة المنسجمة ومعيار الحكمة وإرادة الوصول إلى نزيه الغايات. وفي هذا كله ينبغي أن يُحسَب للظرف حسابه، ويُراعى للحالة اعتبارها. ومن هذه « المُراعاة » ـ التي هي منبع التقية ـ ما وقع من التدرج في قضية تحريم الخمر مثلاً، كما يصف خطواتها العملية القرآنُ الكريم. ومنها حوادث كثيرة في سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ إذ غدا بيّناً أنّه كان « يُوَرّي » في الحروب لدى إعلانه عن الجهة التي يقصدها جيشه، ولم يصرّح ـ بَدءاً ـ بهذه الوجهة إلاّ في معركة واحدة هي معركة تبوك(2)، بعد أن أعدّ صلّى الله عليه وآله عدّة كبيرة وافية، ليُلقي الرعب في قلوب الأعادي قبل التحام الجيشين. والتقية كما تكون بين مسلم وكافر، تكون أيضاً بين مسلم ومسلم، وتكون بين مؤمن ومؤمن. وهي كلّها من الحزم ومن الحكمة بمكان مرموق. وممّا لا ريب فيه أنّ الإيمان درجات، وأنّ لكل درجة من درجات الإيمان عالَمها ومعرفتها وأسرارها. وعلى أصحاب كلّ درجة أن « يَتّقُوا » أصحاب الدرجة النازلة، فلا يحدّثوهم بما لا يعرفون، ولا يكشفوا لهم ما ستره الله سبحانه عنهم؛ لئلاّ يحمّلوهم فوق ما يُطيقون. وهذه مسألة تبدو في غاية الوضوح والبيان، وهي التي يتحسّس منها ـ مع ذلك ـ بعض من لا يُدركون، أو ينفر منها من لا يفقهون. ومنبع هذا التحسّس وهذا النفور أنّ أمثال هؤلاء يَرَون من « الدين » أن يُرغموا المسلمين كافة على أن يفكّروا كما يفكّرون، وأن يَتولَّوا ويُعادُوا من الناس من يتولَّون ويُعادون، وأن يَرَوا الأشياء بالعين التي بها يَرَون. إنّ هذه الرؤية التي يقولون بها ـ وهم أَسْراها ـ إنّما صدرت، في أفضل تقدير، من فهمهم الخاص في ضمن ملابسات ومعطيات فكرية وبيئية وتاريخيّة معيّنة. وهذا يُفضي إلى القول بأنّهم يرون أنّ رأيهم رأيٌ « مطلق » لا تجوز مناقشته، ولا يُباح لأحد الاعتراض عليه. وهذا في واقعه لون من الوثنية ما أنزل الله بها من سلطان. وأمثال هؤلاء إنّما « يؤلّهون » أصناماً في نفوسهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، ويجعلونها مطلقة شاملة اتّخذوها من عند أنفسهم، وبمقتضاها يُبرِّئون أو يكفّرون. وأسوأ شيء في هذا الاتجاه أن يتّخذ المرء فكرة من عنده ثم يجعلها ميزاناً للحب والبغض. وهذا ابتداع في دين الله لعلّه أسوأ من مفارقة دين الله: أرأيتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَواهُ ؟!(3) جاء عن أمير المؤمنين علي عليه السلام ـ وقد سُئل: ما أدنى ما يكون به العبد كافراً ؟ ـ قوله: أدنى ما يكون به العبد كافراً مَن زعم أنّ شيئاً نهى اللهُ عنه أنّ الله أمر به، ونصبه ديناً يتولّى عليه، ويزعم أنّه يعبد الذي أمَرَه به، وإنّما يعبد الشيطان(4). وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن أدنى ما يكون الإنسان به مشركاً، فقال: مَن ابتدع رأياً فأحبّ عليه أو أبغض عليه(5). إنّ التقية التي يُرمى بعض مَن يزاولها أحياناً بالكفر والانحراف إنما هي من شرع الله وشرع رسوله، وهي ـ في ظروفها الخاصة المحددة ـ حزم وجُنّة وعزّ وحصن، وهي أدب إلهي رفيع كما بيّن أهلُ بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله الأئمّة الهداة. في الوقت الذي يكون ترك التقية ـ إذا تمّت شروطها واستوجبت ـ معصية لا يُدرى مدى آثارها المخرِّبة وتبعاتها الوخيمة في الدنيا والآخرة. ------------------ 1 ـ الكافي 23:1 / ح 15، 218:8 / ح 394، وأوّله: قال أبو عبدالله الصادق عليه السلام: ما كلّم رسولُ الله صلّى الله عليه وآله العبادَ بكُنه عقله قطّ. 2 ـ تاريخ الطبري 366:2 ـ 367؛ البداية والنهاية لابن كثير 6:5؛ السيرة النبوية لابن هشام 943:4. 3 ـ الفرقان:43. 4 ـ الكافي 414:2 ـ 415 / ح 1، باب أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالاًّ. 5 ـ الكافي 397:2 / ح 2، باب الشرك.