البدعة وأسباب نشوئها

  البدعة عمل اختياري للمبدع ولها ـ كسائر الأفعال الاختيارية ـ، أسباب وغايات يعدّ الجميع مناشئ لها و لا توجد البدعة إلاّ في ظلّ أسباب وغايات ومن خلال عرض النصوص الدينية وما دخل في التاريخ من بدع، يمكن التوصّل إلى ذلک في ما یلي : 1 ـ المبالغة في التعبّد لله تعالى هذا العنوان ذكره الشاطبي لدى تعريفه للبدعة، حيث قال: "طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله تبارك وتعالى". وهذا وإن لم يكن أمراً كليّاً صادقاً في جميع مواردها لكنّه أحد أسباب نشوء البدع، كما يشهد له التاريخ ولعلّ من هذا المنطلق استأذن عثمان بن مظعون النبيّ في الإخصاء، فقال النبي(صلى الله عليه وآله): "ليس منّا من خصي أو اختصى، إنّ اختصاء اُمّتي الصيام" إلى أن قال: ائذن لي في الترهب، قال: "إنّ ترهّب أُمّتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة"(1). فانّ المبتدع ربّما يتصوّر أنّ ما اخترعه من طريقة توصله إلى رضا الله سبحانه أكثر ممّا رسمه صاحب الشريعة، فلأجل ذلك يترك قول الشارع ويعمل طبق فكرته، ويذيع ذلك بين الناس باسم الشرع، ولهذا أيضاً شواهد في التاريخ نقتطف منها ما يلي: 1 ـ روى جابر بن عبد الله: إنّ رسول الله كان في سفر فرأى رجلا عليه زحام قد ظُلِّل عليه فقال: "ما هذا؟" قالوا: صائم، قال (صلى الله عليه وآله): "ليس من البرّ الصيام في السفر"(2). 2 ـ روى الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)خرج من المدينة إلى مكّة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة، فلمّا انتهى إلى كُراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشرب وأفطر ثمّ أفطر الناس معه وثمّ أُناس على صومهم فسمّاهم رسول الله العصاة وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله(3). فإنّ الإنسان المتزمّت يتخيّل انّه لو سافر صائماً يكون عمله أكثر قبولا عند الله تبارك وتعالى، ولكنّه غافل عن مناطات التشريع وملاكاتها العامة، التي توجب الإفطار في السفر، ليكون الدين رفقاً بالإنسان، يجذب الناس إليه، قال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} (4). 3 ـ روى مالك في الموطأ: إنّ رسول الله رأى رجلا قائماً في الشمس فقال: "ما بال هذا؟" قال: نذر ألا يتكلّم ولا يستظلّ من الشمس ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "مره فليتكلّم وليستظلّ وليجلس وليتمّ صيامه"(5). 4 ـ روى البخاري عن قيس بن أبي حازم: دخل أبوبكر على امرأة فرآها لا تتكلّم فقال: "ما لها لا تتكلّم؟" فقيل: حجّت مصمِتة، قال لها: "تكلّمي فإنّ هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية" فتكلّمت(6). 5 ـ إنّ متعة الحج ممّا نصّ عليها الكتاب العزيز فقال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ اِلَىْ الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (7) والمقصود من متعة الحج هو حجّ التمتع، وهو أن ينشئ المتمتع بها إحرامه في أشهر الحج من الميقات، فيأتي مكّة ويطوف بالبيت ثمّ يسعى بين الصفا والمروة، ثمّ يقصّر ويحلّ من إحرامه، فيقيم بعد ذلك محلاًّ حتى ينشئ في تلك السنة نفسها إحراماً آخر للحج من مكة ويخرج إلى عرفات، ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام ثمّ يأتي بأفعال الحج على ما هو مبيّن في محله. هذا هو التمتع بالعمرة إلى الحجّ وهو فرض من بعد عن مكة بثمانية وأربعين ميلا من كلّ جانب وإنّما أُضيف الحج بهذه الكيفية إلى التمتّع (حج التمتع) أو قيل عنه: بالتمتع بالحجّ، لما فيه من المتعة أي اللّذة بإباحة محظورات الإحرام في المدّة المتخلّلة بين الإحرامين. ولكن كان بين صحابة النبيّ من يستكره ذلك، فقد روى الدارمي قال: سمعت عام حجّ معاوية يسأل سعد بن مالك: كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلى الحجّ؟ قال: حسنة جميلة، فقال: قد كان عمر ينهى عنها فأنت خير من عمر؟ قال: عمر خير منّي وقد فعل ذلك النبيّ هو خير من عمر(8). وروى الترمذي قال: حدّثنا قتية بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أنّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فقال الضحاك بن قيس: لا يصنع ذلك إلاّ من جهل أمر الله تعالى. فقال سعد: بئس ما قلت يا بن أخي! فقال الضحاك: فإنّ عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصنعناها معه، هذا حديث صحيح. وروى ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال: إنّي لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتّع بالعمرة الى الحجّ، فقال ابن عمر: حسن جميل. قال: فإنّ أباك كان ينهى عنها. فقال: ويلك! فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمر به، أفبقول أبي آخذ، أم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! قم عنّي(9). ولأجل ذلك كان هذا الصحابي يحرم بإحرام واحد للعمرة والحج، مع أنّ النبيّ أمر الإحرام بإحرامين: الإحرام للعمرة ثمّ يتحلّل ويتمتّع بمحظورات الإحرام ثمّ يحرم للحج، وما هذا إلاّ لزعم أنّ ترك التمتع بين العملين أكثر قربة إليه تعالى، وقد برّر فتواه بعد الاعتراف، بأنّ عمرة التمتّع سنّة رسول الله بقوله: ولكنّني أخشى أن يعرسوا بهنّ تحت الاراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجاً(10). هذه بعض النماذج التي تعرّض لها التاريخ في شتّى المناسبات، والجامع لذلك هو المبالغة في التعبّد لله ـ حسب زعمه ـ وهي ناشئة عن قلّة استيعاب المبتدع لما يجب أن يعرفه، فانّ الله سبحانه أعرف بمصالح العباد ومفاسدهم، وبأسباب السعادة والشقاء، ولا يشذّ عن علمه شيء. وكم في التاريخ الإسلامي من شواهد واضحة على هذا السبب(11). 2 ـ اتباع الهوى إنّ استعراض تاريخ المتنبّئين الذين ادّعوا النبوّة عن كذب ودجل، يثبت بأنّ الأهواء وحبّ الظهور والصدارة كان له دور كبير في نشوء هذه الفكرة وظهورها على صعيد الحياة، والمبتدع وإن لم يكن متنبئاً، إلاّ أنّ عمله شعبة من شعب التنبؤ، وفي الروايات إشارات وتصريحات إلى ذلك. فقد خطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: أيّها الناس إنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تُتَّبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولّى فيها رجال رجالا...(12). إنّ لحبّ الظهور دوراً كبيراً في الحياة الإنسانية، فلو كانت هذه الغريزة جامحة لأدّب بالإنسان إلى ادّعاء مقامات ومناصب تختصّ بالأنبياء، ولعلّ بعض المذاهب الظاهرة بين المسلمين في القرون الأُولى كانت ناشئة عن تلك الغريزة. روى ابن أبي الحديد في شرح النهج أنّ عليّاً مرّ بقتلى الخوارج فقال: بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم، فقيل: ومن غرّهم؟ فقال: الشيطان المضلّ، والنفس الأمارة بالسّوء، غرّهم بالأماني وفسحت لهم في المعاصي ووعدتهم الاظهار فاقتحمت بهم النار(13). 3 ـ حبّ الاستطلاع إلى ما هو دونه إنّ حبّ الاستطلاع من نعم الله سبحانه، إذ في ظلّه يقف الإنسان على مجاهيله ويكتشف معلومات تهمّه في حياته، ولولا ذلك الحبّ لكان الإنسان اليوم في أوليات حياته في العلم والمعرفة، قال سبحانه: {اللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْصَارَ وَالاْفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (14) ومع اشتراك الكلّ في تلك النعمة المعنوية إلاّ أنّ الطاقات الكامنة لدى الإنسان تختلف من واحد إلى آخر، فليس لكلّ إنسان قابلية التطلّع إلى كلّ شيء واستعراض جميع المجاهيل، ولهذا ربّما أدّى ذلك العمل إلى الزلّة في الفكر والمعتقد، ولذلك ترى عليّاً (عليه السلام) ينهى عن الغور في القدر فيقول: "طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسرّ الله فلا تتكلّفوه"(15). ولكن الإمام نفسه تكلّم في مواضيع أُخر عن القضاء والقدر حينما كان يجد إنساناً قادراً على درك المفاهيم الغامضة. إنّ القرون الثلاثة الأُول، كانت قرون ظهور المذاهب الكلامية والفقهيّة، وكانت الأمصار وحواضرها الكبرى ميداناً لمطارحات الفرق المختلفة، وقد ظهرت في تلك القرون أكثر المذاهب والفرق، مع أنّ الحقّ في طرف واحد، فلو أنّهم توحّدوا في العقائد; لما أدّى بهم الأمر إلى شقّ العصى وإيجاد الفرقة، وبالتالي ذهاب الوحدة الإسلامية في مهبّ الريح ضحية البحوث الكلامية والفقهية وغير ذلك. كان للخوض في الآيات المتشابهات دور كبير في ظهور البدع في الصفات الخبرية، وفي تفسير اليد والرجل والوجه لله سبحانه الواردة في الكتاب والسنّة، فقد كان البسطاء يخوضون في تفسيرها من دون إرجاعها إلى المحكمات التي هي أُمّ الكتاب وما هذا إلاّ لقصور أفهامهم وقلّة بضاعتهم العلمية، فكان واجبهم السكوت وسؤال الراسخين في العلم، دون الخوض فيها. إنّ للشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا نصيحة لطلاب الفلسفة والحكمة، يحثّهم على عدم إذاعة ذلك العلم بين أُناس ليس لهم قابلية التفكّر الواسع، ويقول في آخر كتاب الإشارات: "أيّها الأخ إنّي قد مخضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحق، وألقمتك قفي(القفي: الشيء الذي يؤثر به للصنف) الحكم في لطائف الكلم. فصُنْه عن الجاهلين والمبتذلين ومن لم يرزق الفطنة الوقّادة والدربة والعادة وكان صغاه(صغاه: ميله.)مع الغاغة، أو كان من ملحدة هؤلاء الفلاسفة ومن همجهم، فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته وبتوقّفه عمّا يتسرّع إليه الوسواس، وينظر إلى الحقّ بعين الرضا والصدق فآته ما يسألك منه مدرجاً مجزءاً مفرقاً تستفرس ممّا تسلفه لما تستقبله. وعاهدْه بالله وبأيمان لا مخارج لها ليجري فيما يأتيه مجراك متأسّياً بك فإن أذعتَ هذا العلم أو أضعته فالله بيني وبينك وكفى بالله وكيلا"(16). 4 ـ التعصّب الممقوت وهناك سبب آخر لا يقل تأثيره عمّا سبق من الأسباب وهو تقليد الآباء والأجداد، وصيانة كيانهم وسننهم، فإنّ اتّباع الأهواء القبلية والقومية وما شاكل فإنّها من أعظم سدود المعرفة وموانعها، وهي التي منعت الأُمم عبر التاريخ من الخضوع للأنبياء والرسل رغم البراهين الواضحة كما يقول سبحانه: {وَكَذلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَة مِنْ نَذِير اِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا اِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَاِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (17). ومن هذا المنطلق، اقترح تميم بن جراشة على النبي ـ عندما جاء على رأس وفد من الطائف يخبره بإسلام قومه ـ اقترح عليه أن يكتب لهم كتاباً، بأن يفي لهم بأُمور، يقول: قدمتُ على النبيّ (صلى الله عليه وآله) في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط؟ فقال: اكتُبوا ما بدا لكم ثمّ إيتوني به، فسألناه في كتابه أن يُحلّ لنا الربا والزنا، فأبى عليّ (رضي الله عنه) أن يكتب لنا، فسألنا خالد بن سعيد بن العاص، فقال له علي: تدرى ما تكتب؟ قال: أكتب ما قالوا، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) أولى بأمره، فذهبنا بالكتاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال للقارئ: إقرأ، فلمّا انتهى إلى الربا قال: ضع يدي عليها في الكتاب، فوضع يده فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (18) الآية، ثمّ محاها، وأُلقيت علينا السكينة فما راجعناه، فلمّا بلغ الزنا وضع يده عليها (وقال:) {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا اِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} (19)الآية، ثمّ محاها وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا(20). ورواه ابن هشام بصورة أُخرى قال: وقد كان ممّا سألوا رسول الله(صلى الله عليه وآله)أن يدع لهم الطاغية، وهي اللاّت، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمّى، وإنّما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يتسلّموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أمّا كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأمّا الصلاة، فانّه لا خير في دين لا صلاة فيه. فقالوا: يا محمد، فسنؤتيكها، وإن كانت دناءة(21). انظر إلى التعصّب المميت للعقل يسأل رسول الله ـ الذي بعث لكسر الأصنام وتحطيم كلّ معبود سوى الله ـ أن يدع لهم الطاغية وهي اللاّت لا يهدمها ثلاث سنين.... وكان هذا الاقتراح نابعاً عن العصبية لطرق الآباء وسلوكهم. وكان المقترح في حضرة النبيّ (صلى الله عليه وآله). هذه هي الأسباب العامّة، وهناك أسباب خاصّة لظهور البدع في المجتمع الإسلامي لا تخفى على القارئ الكريم. 5 ـ التسليم لغير المعصوم إنّ من أسباب نشوء البدع التسليم لغير المعصوم، فلا شكّ أنّه يخطأ وربّما يكذب، فالتسليم لقوله سبب للفرية على الله سبحانه والتدخّل في دينه عقيدة وشريعة. فإذا كان النبيّ الأكرم خاتم النبيين وكتابه خاتم الكتب وشريعته خاتم الشرائع فلا حكم إلاّ ما حكم به، ولا سنّة إلاّ ما سنّه، والخروج عن هذا الإطار تمهيد لطريق المبتدعين. وفي ضوء ذلك فلا معنى معقول لتقسيم السنّة إلى سنّة النبيّ وسنّة الصحابة، وتلقّي الأخيرة حجّة شرعية وإن لم تُسند إلى المصدرين الرئيسيين. وهذه كتب الحديث والفقه تطفح بسنّة الصحابة، فهناك سنن تُنسب إلى الخليفة الأوّل والثاني والثالث، فما معنى هذه السنن إذا لم تستند إلى الكتاب والسنّة، ولو أُسندت فلا معنى لإضافتها إليهم. كما أنّ الإفتاء بمضمون تلك السنن بدعة في الشريعة. وهناك كلام للدكتور عزّت علي عطية، جعل فيه الاقتداء بأئمة أهل البيت تسليماً لغير المعصوم ثمّ قال: نتساءل عن الصلة بين هذا الإمام وبين الله جلّ جلاله، هل هي وحي، أم إلهام أم حلول؟ إن كانت وحياً فقد نفوه، وإن كانت حلولا فهو الكفر بعينه، وإن كانت إلهاماً فما الذي يفرق بينه وبين وساوس الشيطان وخطرات النفوس(22). إنّ الدكتور عطية لم يدرس عقائد الإمامية حقّها وإنّما اكتفى بكتاب صغير كتب في بيان العقائد لا في البرهنة عليها، ولو أنّه رجع إلى علمائهم ومؤلفاتهم لوقف على أدلّة عصمة الأئمة، فإنّ أحد تلك الأدلّة هو حديث الثقلين الذي أطبق المحدّثون على نقله، وهو أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما". فإن كانت العترة عدلا للكتاب وقريناً له فتوصف بوصفه، فالكتاب معصوم عن الخطأ "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" فتكون العترة مثله. وأمّا مصدر علومهم; فغالب علومهم مأخوذ من الكتاب والسنّة إذ أخذ عليّ (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وأخذ الحسن (عليه السلام) عن أبيه، وهكذا كل إمام يأخذ عن أبيه، علم يتناقل ضمن هذه السلسلة الطاهرة المعروفة، ولم يأخذ أحد منهم (عليهم السلام) عن صحابي ولا تابعي أبداً، بل أخذ الجميع عنهم، ومنهم انتقلت العلوم إلى الآخرين كما تلقّاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) من لدن حكيم خبير. قال الإمام الباقر (عليه السلام): "لو كنّا نحدّث الناس برأينا وهوانا لهلكنا، ولكن نحدّثهم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم". وهناك مصدر آخر لعلومهم وهو أنّهم محدّثون كما أنّ مريم كانت محدّثة، وكما كان عمر بن الخطاب محدّثاً حسب ما رواه البخاري، روى أبو هريرة قال: قال النبي: "لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن كان من أُمّتي أحد فعمر"(23). لكن الدكتور خلط بين التحديث والوحي. وأمّا أنّهم بماذا يميّزون الإلهام من وساوس الشيطان، فليس بأمر عسير فإنّ الوساوس تدخل القلب بتردّد والإلهام يرد النفس بصورة علم قاطع ولأجل ذلك تلقّت مريم وأُمّ موسى ما أُلهما به، كلاماً إلهياً، لا وسوسة شيطانية. المصادر : 1- الشاطبي، الاعتصام 1: 37 و 325. 2- أحمد بن حنبل، المسند 3: 319 و 399 ـ لاحظ الفقيه للصدوق 2: 92 ح 2 3- الكليني، الكافي 4: 127 ح 5 باب كراهية الصوم في السفر 4- الحج/78 5- مالك ابن أنس، الموطأ، 2: 475 ح6 كتاب الايمان والنذور. 6- البخاري، الصحيح 5: 41 ـ 42 باب أيام الجاهلية. 7- البقرة/196 8- الدارمي، السنن 2: 36 كتاب المناسك. 9- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2: 388. 10- أحمد بن حنبل، المسند 1: 49. 11- السيرة النبوية لابن هشام، صلح الحديبية 2: 316 ـ 317. 12- الكليني، الكافي 1: 45/1 باب البدع. 13- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 19: 235. 14- النحل/78 15- نهج البلاغة، قسم الحكم: رقم 287. 16- كتاب الإشارات 34: 419. 17- الزخرف: 23. 18- البقرة: 278. 19- الاسراء: 32. 20- ابن الأثير، أُسد الغابة 1: 216 مادة تميم و 3: 406. 21- ابن هشام، السيرة النبوية 2: 537 ـ 543. 22- الدكتور عزت علي عطية، البدعة: 245. 23- البخاري، الصحيح 2: 194 باب مناقب عمر بن الخطاب.