الحسين .. لغةٌ ثانية

النُّبُوءَات

النُّبُوءَة الأُولى :

كان الحسينُ غيمةً ،

حاصرها العطَشْ

وكان نقطةً من الضّوءِ ،

على نافذةِ الغبَشْ !

***************

وكان في وريدهِ نهرٌ ،

وقبضتاهْ

نبعانِ من رفض ومن صلاهْ !

وفي فم الحسين شاطئانْ

يبتكران الوردَ والأمطارَ والبركانْ

يَضيعُ فيهما المدى ... ويكتبُ الزمانْ

تأريخَ موتِ الماء فوق جثّةِ الدخانْ !

***************

جرّحَ قلبَ الأمسْ            بـأنّـةٍ ، أو آهْ لكنْ جذورَ الشمسْ           تطلعُ من رؤياهْ ! رغمَ جنونِ الخيلْ           مـا برحت عيناهْ تـطوفُ أُفْقَ الليلْ           تلمحُ وجهَ اللهْ !!

***************

النُّبُوءَة الثانية :

وكان الحسينُ طويلاً كرمحِ

وكان الفراتُ ضئيلاً.. ضئيلا ،

بدى خلف خيمتهِ ، خيطَ ملحِ

وكان يقولُ: إذا ما تكسَّرَ جُرحي ،

فصارَ مرايا

وأمست عيوني شظايا

ستُولَدُ ساعةَ ذبحي ،

عصافيرُ ماءٍ عرايا

تُقبِّلُ جثّةَ طفلي القتيلِ ،

وتغمرُها بالرؤى والحكايا !

***************

ويوم توارى الحسينُ ،

رأينا خيولاً ملطّخةً بالخطايا

رأينا سكاكينَ بيضاءَ... بيضاءَ...

تُولَدُ خلفَ دموعِ السبايا !

***************

النُّبُوءَة الثالثة :

لـو  أنّـهُ دمعَهْ      لـباحَ  بالأسرارْ لـكـنَّهُ شـمعَهْ      ماذا تبوحُ النارْ ؟

***************

يـكتبُ بـالسكَينْ      مـيلادَهُ  المخنوقْ يـا  قافلاتِ الطينْ      رُوِّي وجـوهَ النُّوقْ

***************

مَن قالَ إنّ الليلْ      قد دفنَ الوادي ؟ هذا صهيلُ الخيلْ      يُعْلِنُ  ميلادي !

***************

حينَ  أفاقَ الصبحْ      كـفَّـنهُ  الأمـسُ وحينَ صاحَ الجُرحْ      غادرتِ الشمسُ !

***************

خـبَّأتُ  لـي صوتاً           يـنـسلُّ كـالطّيفِ يـا أيُّـها الـموتى           لا تََكْسِروا سيفي !

***************

النُّبُوءَة الرابعة :

اَلـضوءُ في عينيَّ يغفو      ويـضيعُ بينَ يديَّ سيفُ ويُـبَـحُّ  قـرآنٌ عـلى      شـفةِ الظما ويباحُ نزفُ وتُـجَنُّ قـافلةُ الـسرى      حزناً ويحدو النوقَ خوفُ مـليونُ  بـحرٍ جفَّ من      عطشٍ  وجُرحيَ لا يجِفُّ اَلـموجةُ الزرقاءُ خجلى      والـغيومُ  إلـيَّ تـهفو لـيعودَ  لفحُ الرملِ ورداً      أو  فـراشـاتٍ تَـرِفُّ

***************

يـا أنـتَ حـين تكسَّرتْ      أُنـشودتي وانـدقَّ حرفُ وتناهبَ الإعصارُ أشرعتي      ورشَّ  الـرعبَ عـصفُ نـاديـتَني فـرأيتُ مـن      خـلفِ الـضبابِ تُمدُّ كَفُّ وبـدا لـعيني مـن بعيد      ضـوءُ  مـيناءٍ وجُـرْفُ وتـنـهَّـدتْ قـيـثارتي      فالعمرُ بين يديكَ عزفُ !

***************

النُّبُوءَة الخامسة :

لا تسرقي خطوَاتِنا ،

يا قافلاتِ الوحلِ والصدَأْ

لا تسرقي دمعةَ أطفالي ،

فأنتِ يا خاويةً ،

هيهاتَ أن تَكشفي عذوبةَ الظمَأْ !

***************

لا تبحثوا عني ،

في مُدُنٍ صخرية ،

ممطورة بالدمعِ.. والحزنِ

فإنَّني ما زلتُ منذُ رحلتي أطوفْ

في مُدُنٍ مسكونةٍ ، دونَ سواها ،

بالسكاكينِ.. وبالسيوفْ !

***************

لا تبحثوا فخلفَ كلِّ جُرجْ

عصفورةٌ تُنبئكُم عن صبحْ !

***************

النُّبُوءَة السادسة :

نحوَ أُفْقٍ كلونِ الرمادْ

كانت الشمسُ تحملُ أشلاءَها ،

وصهيلُ الجيادْ

عادَ محترقاً ،

والسيوفُ التي شَربتْ قلبَهُ باشتهاءْ

ظمِئت فجأةً.. لا لِماءْ،

بل إلى قطرة من حياءْ !

***************

يا عيوناً خُرافيَّةَ الحُلْمِ ، مسكونةً بالجرادْ

أطفئي في الربيعِ الفتيِّ قناديلَهُ ،

أطفئيهنَّ فالضوءُ متَّشحٌ بالسوادْ !

***************

نحوَ أُفْقٍ كلونِ الرمادْ

عَبَرت أمسِ أشباحُهم وهي مذعورةٌ...

لم تعدْ في الرمالِ سوى جُثَّةٌ للحسينِ ،

وعينينِ حَدَّقتا في عِنادْ !

***************

النُّبُوءَة السابعة :

أيُّ خيطٍ من الماءِ ،

هذا الذي يرسمُ القاحلَةْ ؟

أيُّ خيطٍ من الدمِ ،

هذا الذي يفرشُ الوردَ للقافلَهْ ؟

*  * *

كان للماءِ لونُ الترابِ ،

مساحةُ قبرٍ قديمْ ،

غموضُ الصحارى الخرافيُّ ،

مرثيّةٌ... ونهايَهْ!

كان للدمِ لونُ النجومِ ،

وشَكلُ العصافيرِ ،

وَهْجُ المراسي المضاءةِ ،

أنشودةٌ... وبدايَهْ !

***************

كيفَ تَفْقِدُ هذي المعاني انتماءاتِها ؟

إنّها تتشكَّلُ ثانيةً ، واللُّغَهْ

هُوّةٌ مُفرَغَهْ !

***************

عندما يتقاطعُ خيطٌ من الماءِ ،

في كربلاءَ

وخيطٌ من الدمِ ، تَدفُنُ كلُّ الحروفْ

ذُلَّها في رمادِ السيوفْ !

***************

هكذا صارتِ الشمسُ في رمشِهِ تتكسَّرْ

هكذا صارَ ظلُّ الحسينِ ،

على الماءِ.. أحمرْ !

***************

النُّبُوءَة الثامنة :

اَلفراتُ المسافرُ

يُشبهُ خابيةً من دموعْ

اَلفراتُ المسافرُ غادَرَنا ،

وهو يحملُ وجهَ المساءاتِ ،

ينسابُ ما بينَ مقبرة للسيوفِ ،

ومقبرة للشموعْ

يومَها كانَ صوتُ الحسينِ ،

يهُزُّ القلوبَ الصديئَهْ

يا إلهيَ قطرةَ ماءٍ جريئَهْ

لا لأُطفي الحرائقَ في رئتيَّ ،

ولكن لأمسحَ لونَ الخطيئَهْ !

***************

اَلفراتُ المسافرُ... والخوفُ ،

يبتكرانِ الهزيمةَ ،

مَن قالَ إنَّ الرماحَ التي خَطَفت قلبَهُ ،

انتصرتْ ؟ ،

لم يزلْ في خيامِ الحسينِ رمادٌ ،

وكِسْرةُ سيف ،

ورفضْ !

لم يزلْ في وريدِ الحسينِ المقطّعِ نبضْ !

***************

اَلمسافاتُ تفقدُ أبعادَها ،

والحسينْ

لم يزلْ يحرسُ الضفَّتَينْ !

***************

النُّبُوءَة التاسعة :

هوَ وحدَهُ الممتدُّ بينَ الضوءِ والدمْ ،

هوَ وحدَهُ المصلوبُ خلفَ جنازةٍ للماءِ ،

في زمنٍ رماديٍّ.. مهشَّمْ

***************

شَفَةٌ لجَرحِ القلبِ ،

أُغنيةٌ لشهقِتهِ الأخيرَهْ

عصفورةٌ خضراءُ ،

تخشعُ فوقَ رايتِهِ الأسيرَهْ !

اَلشمسُ تعرفُ وجههُ النبويَّ ،

والصحراءُ قد خَطَفت عذابَهْ

وبكفِّهِ اشتعلَ الندى المجنونُ ،

واحترقت سَحابَهْ!

لا تحملي يا ريحُ صرخَتَهُ

الى زمنِ الترابِ ،

أقولُ:

لا تتسمرَّي كالظلِّ ،

في بوّابةِ الندمِ القديمِ ،

ولا تكوني كِسْرةً من رُمحهِ القرشيِّ ،

لا يا ريحُ ،

صيري قطرتينِ ، دماً سماويّاً.. وماءا ،

فالدمُّ يَرِسمُ وجهَهُ ،

والماءُ يَرِسمُ أنبياءا !!

***************

يا أيُّها الممتدُّ بينَ الضوءِ والدمِ ،

والمكفَّنُ بالغبارْ ،

ظمِئتْ إليكَ الأنهرُ الخجلى ،

وأومأتِ البحارْ !

يا أيُّها الممتدُّ بينَ جراحِنا والأمسِ ،

علِّمْنا الرحيلَ معَ النهارْ ،

وجعٌ.. ونحنُ مُسَمَّرونَ

على صليبِ الانتظار !

النُّبُوءَة العاشرة :

شيءٌ منَ الحزنِ يطفو      عـلى بـقايا شُموعي وفـي عـيونيَ صمتٌ      مـلـوَّنٌ بـالـخشوعِ مـا  لـلشواطئ تبكي      جـنـازةَ  الـيُنبوعِ ؟ وهـيَ الّـتي قـتلتني      ولـم  تُـلَملِمْ دموعي ومـزَّقـت  بِـيدَيْها..      مـرافِئي..  وقُـلوعي وفي  الظمأ.. سمرَّتني      ظلاً  ، لتصلبَ جوعي مـا  لـلشواطئ تبكي      جـنـازةَ  الـينبوعِ ؟ هل سافرتْ في جراحي      ورمِـلها  الـمنقوعِ ؟ أم  اكتوى الخطوُ منها      على المدى الموجوعِ ؟ إنْ  راعَـها تـمتماتٌ      مـن  رأسيَ المقطوعِ فـفـي  يـديَّ نـهارٌ      وغابةٌ  في ضلوعي !

***************

النُّبُوءَة الحادية عشرة :

وهذهِ الصحراءْ

تعرفُ أنّي عاشقٌ ،

يخبئ البحارَ في تابوتهِ ،

وأنَّ بيتي الماءْ!

***************

وهذهِ الصحراءْ

تَقمَّصتني فجأةً ،

فاتخذتْ من وَجَعي مرسىً ،

ومن تمرُّدي ميناءْ !

***************

وهذهِ الصحراءْ

تتفتَّحُ في وجهيَ عينيها ،

تحكي عن سقوطِ المدنِ العمياءْ !

***************

وهذهِ الصحراءْ

تفتَّحت من عَطشي وِرداً ،

وإصراراً ، وكبرياءْ

ولم تعُدْ تذكرُ ، لا قوافلَ التيهِ ،

ولا مواسمَ العراءْ !

***************

النُّبُوءَة الثانية عشرة :

وَمَن يدري؟ لعلَّ دمي      سـيفتحُ  ألفَ بوّابَهْ يـضيعُ وراءَها زمنٌ      وتُصلبُ  خلفَها غابَهْ

***************

على عطشي سأضفرُ من      خـيوطِ الـنهرِ أُرجوحَهْ وشّـلالاً  يـنثُّ الضوءَ      فـالـواحاتُ مـذبوحَهْ

***************

هـناكَ وراءَ ظلِّ النخلِ      قُـبّـرةٌ  تـحبُّ الـماءْ رأيـتُ  عـيونَها بُـقَعاً      من الدمِ تملأُ الصحراءْ !

***************

رأيتُ البحرَ يبكي خلفَ      خـيمتِنا... ويـرتجفُ شواطئُهُ محنَّطةُ الرمالِ      ومـوجُـهُ  خـزفُ !

***************

رأيـتُ الغيمَ يرقدُ في      البراري يرتدي المِلْحا يُكسِّرُ  موسمَ الأمطارِ      ثـمَّ يُـقبّلُ الـجُرحا!

***************

رأيـتُ الشمسَ تغرفُ من      وريـدي دفـئَها المسحورْ لـتـمـتدَّ اشـتـعـالتُها      رؤىً ، ورمادُها عصفورْ !

النُّبُوءَة الأخيرة :

لغةٌ واحدَهْ ،

كيفَ تُلغي المسافاتِ ،

بين التوهُّجِ.. واللحظةِ الباردَهْ ؟

لم تزلْ بين جرحِ الحسينِ ،

وبين قصائدِنا..

مُدُنٌ قانيَهْ

ولكي نقرأَ الحُرحَ ، لابدَّ من لغة ثانيَهْ !!

 جواد جميل