ولاية علي شرط الايمان
ولاية علي شرط الايمان
0 Vote
180 View
لعلك تقول : حُفظُ الاسلام بحفظ القران ، فمادام القران موجودا فالاسلام موجود. نقول : الكل يستدل بالقرآن الكريم ، فما من فرقة من الفرق إلا وهي تستدل على عقائدها وممارساتها من القران الكريم ، الجبري (وهو القائل بأن الانسان مجبر على فعله) يستدل على عقيدته في الجبر من القران الكريم ، والمفوّض يستدل على تفويضه من القران الكريم ، وقس على ذلك بقية الفرق. ويكفى في ذلك ان المسلمين اختلفوا في اوضح اية في القران الكريم وهي اية الوضوء ( يا أيها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين ) بين قائل بالمسح في الارجل وقائل بالغسل ، فإذا حصل الخلاف في مثل هذه الاية الواضحة الدلالة فالاختلاف في بقية الايات أسهل وأوضح ، بل الكفرة والملحدين أيضا يستدلون على بطلان الاسلام من القران الكريم. ومثال آخر آية الطلاق فقد قال تعالى ( الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان .... فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) فمع أن الاية في غاية الصراحة والوضوح نجد جمهور المسلمين خالفوا كتاب الله وتركوه وراء ظهورهم واتبعوا اجتهاد الخليفة عمر بن الخطاب ، فإذا قال الرجل لزوجته أنت طالق طالق طالق في مجلس واحد ، اعتبرها جماعة كثيرة من فقهاء المسلمين هذا الطلاق ثلاثيا مع أنه مخالف لصريح ونص القران الكريم ، كل تقليداً للخليفة عمر بن الخطاب ، فاذا كانت هذه الاية الواضحة الدلالة مُعرض عنها فكيف ببقية الايات التي لها ظهورات متعددة. فالقرآن حمال ذو وجوه والكل يمكنه بمغالطته وأفكاره الخاطئة من أن يفسر القران وفق أفكاره ومعتقداته وممارساته الخاصة ، ومن هنا تبرز أهمية وجود من يفسر القران كما هو ، وليس هو الا الامام المعصوم الذي هو عدل القران. ولذا في حديث الثقلين قرن الرسول بين الكتاب والعترة وان الابتعاد عن الضلال رهن التمسك بهما معا لا بأحدهما دون الاخر فقال صلى الله عليه واله « اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ». فَهْمُ الكتاب وعليه فكون الكتاب وسنة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله موضعُ اتفاق بين المسلمين في كونهما عمدة مصادر التشريع ، لا يقتضي ويستلزم عدم الضلال والانحراف ، إذ الكتاب والسنة شيء وعوامل فهم الكتاب والسنة شيء اخر ، فلو توسعنا في مصادر المعرفة بحيث يشمل كل من أطلق عليه « أمير المؤمنين » لكان فهمه للكتاب والسنة هو المُحكّم والمُتبع ، او محاولة التأويل والتوجيه بين بدعته المستحدثة والايات القرانية المخالفة لها صراحة ، أو تجميد الايات وتعطيلها واتباع ما أحدثه الخليفة. الاسلام والايمان يقسم القران الكريم أفراد هذه الامة الى قسمين : مسلم و مؤمن والشاهد عليه قوله تعالى ( قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم من أعمالكم شيئا ) (1) ، فإطاعة الله ورسوله شرط لتحقق الايمان ودخوله في قلب المرء ، والى هذا الشرط اشار تعالى بقوله أيضا ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) (2) ، فمحبة الله تستلزم اتباع الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، أو من أمر الرسول صلى الله عليه واله بطاعته والاقتداء به ، فالحب بمصطلح القران يقتضي ويستلزم الاتباع والموالاة ، فهو عمل جوانحي مرتبط بقلب الانسان وجوارحي معا. وقد أكدت بعض الايات على ضرورة التسليم القلبي المطلق لاوامر ونواهي الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلّموا تسليما ) (3) ، فعلاوة على طاعة الرسول وانقياد جوارح وكيان الانسان الظاهري لأوامر ونواهيه صلى الله عليه واله لابد من الاذعان والتسليم القلبي لكل ما يصدر عنه حتى وإن كان ـ بنظر المسلم ـ ضررا على الذات. فالتسليم القلبي بكل ما حكم وجاء به الرسول الاكرم صلى الله عليه واله هو الايمان ، والتسليم القولي وتلفظ الشهادتين هو الاسلام ، وفرق كبير بين الايمان والاسلام ، فقد يكون الانسان مسلما وليس هو بمؤمن ولا عكس. ولاية علي شرط الايمان والخلاف بين المؤمنين وغيرهم ليس في كونهم مسلمين أو ليسوا بمسلمين ، من تشهد الشهادتين وصلى وصام وزكى وحج فهو مسلم ، وإنما الخلاف في تحقق الايمان وعدمه ، حب علي عليه السلام ركن الايمان ، ومتابعة علي عليه السلام واهل بيته محققة للايمان ، والايمان درجة والاسلام درجة اخرى ، فالايمان مقيّد باطاعة الرسول إطاعة مطلقة في أوامره ونواهيه وأحكامه. فمن عصاه في قوله صلى الله عليه واله « أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم ، قالوا : بلى ، قال : فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » فهو مسلم إن حافظ على الشهادتين وخارج عن الايمان لعدم متابعته للرسول الاكرم صلى الله عليه واله في علي عليه السلام ، وستأتي تتمة فانتظر. الردة عن الايمان وكما أنه هناك ردّة عن الاسلام هناك ايضا ردّة عن الايمان ، فكثير من الصحابة كما هو ظاهر قوله تعالى ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل افإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) (4) حافظوا على التشهد بالشهادتين لكن اعترتهم ردّة في الايمان ، وهذا ما استفاضت به الروايات كما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما. فعن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه واله قال : بينما أنا قائم إذا زمرة حتى اذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلمّ ، فقلت : أين ؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على ادبارهم القهقري ، ثم إذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلمّ ، قلت : اين ؟ قال الى النار والله ، قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنهم بعدك ارتدوا على أدبارهم القهقري ، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم » (5). وعن أبي وائل قال : قال عبدالله : قال رسول الله صلى الله عليه واله : أنا فرطكم على الحوض ، ليرفعنّ إليّ رجال منكم ، حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أي رب ، أصحابي ! يقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك (6). وعنه عن ابي حازم قال : سمعت سهل بن سعد يقول : سمعت النبي صلى الله عليه واله يقول : أنا فرطكم على الحوض ، من ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا ، ليرد عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم. قال ابوحازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا ، فقال : هكذا سمعت سهلا ؟ فقلت : نعم ، قال : وأنا أشهد على ابي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيه ، قال : إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما بدلوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن بدّل بعدي (7). وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله ، قال : ليردَنّ عليّ ناس من أصحابي الحوض حتى اذا عرفتهم اختلجوا دوني ، فأقول ، أصحابي ، فيقول : لاتدري ما أحدثوا بعدك (8). وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه واله ـ في حديث ـ قال : ألا وإنه يجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ) (9). فالاحاديث ناصة على أن هؤلاء المحدثين في الدين هم من صحابة الرسول الاكرم صلى الله عليه واله ، ودعوى أنهم من ارتد بعده صلى الله عليه واله وحاربهم أبوبكر في غاية البعد والغرابة وقراءة الاحاديث كافية في وهن هذه الدعوة ، وعبارة « ارتدوا على أدبارهم القهقري » يشمل الارتداد عن الاسلام وعن الايمان ، إلا أن عبارة « لا تدري ما أحدثوا بعدك » ظاهرة في أنهم كانوا باقين على الاسلام ، إذ المرتد لايمكنه أن يحدث في الدين شيئا والله العالم. ومنه تعرف أن قول الباقر محمد بن علي عليهما السلام « كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه واله ، إلا ثلاثة ، فقلت : ومن الثلاثة ؟ فقال : المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي رحمة الله وبركاته عليهم ثم عرف الناس بعد يسير » (10) هو ارتداد عن الايمان لاارتداد عن الاسلام فافهم وتنبه ولاتغفل. ويشهد لذلك أيضا قوله عليه السلام ـ في حديث آخر ـ ارتد الناس إلا ثلاثة نفر ، سلمان وأبو ذر والمقداد ، قال : قلت : فعمار ؟ قال : جاض جيضة (جاض عنه يجيض ، أي عدل وجاد.) ، ثم رجع ، ثم قال عليه السلام : إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد ، فأما سلمان فإنه عرض في قلبه عارض أن عند أمير المؤمنين اسم الله الاعظم لو تكلم به لاخذتهم الارض وهو هكذا فلبب ووجئت عنقه حتى تركت كالسلقة ، فمر به أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : يا أبا عبدالله هذا من ذاك فبايع ، فبايع ، واما ابو ذر فأمره أمير المؤمنين عليه السلام بالسكوت ولم يكن يأخذه في الله لومة لائم فابى إلا أن يتكلم فمر به عثمان فأمر به ، ثم أناب الناس بعد فكان أول من أناب أبو ساسان الانصاري وأبو عمرة وشتيرة ، وكانوا سبعة فلم يكن يعرف حق أمير المؤمنين عليه السلام إلا هؤلاء السبعة (11). فالحديث صريح في أن الردة ليس عن الاسلام وإنما عن معرفة حق أمير المؤمنين ، الذي لايحبه إلا مؤمن ولايبغضه إلا منافق كما في الحديث المستفيض ، وليس الحب إلا المتابعة المطلقة ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ). وغالبية المسلمين بغضوا من يحب عليا وأحبوا من يبغضه ، حتى قال ابن حجر العسقلاني : وقد كنت استشكل توثيقهم (أي أهل الجرح والتعديل) الناصبي (وهو المبغض لعلي بن أبي طالب عليه السلام ولأهل بيته) غالباً ، وتوهينهم الشيعة مطلقاً ، ولاسيما أن عليا ورد في حقه : لايحبه إلا مؤمن ولايبغضه إلا منافق ، ثم ظهر لي في الجواب عن ذلك أن البغض ههنا مقيد بسبب وهو كونه نصر النبي صلى الله عليه واله ، لان من الطبع البشري بغض من وقعت منه اساءة في حق المبغض والحب بالعكس ، وذلك ما يرجع الى امور الدنيا غالبا ، والخبر في حب علي وبغضه ليس على العموم ، فقد أحبه من افرط فيه حتى ادعى أنه نبي أو اله تعالى الله عن افكهم. قال ابن عقيل : ان بغض علي عليه السلام لايصدر من مؤمن أبدا لأنه ملازم للنفاق وحبه لايتم من منافق أبدا لأنه ملازم للايمان ، سواء كان المبغض بسبّه عليا عليه السلام أو غيره مسلما كان أو كافرا ، ألا ترى لو أن مكلفا أبغض المطعم بن عدي أو أبا البختري ـ اللذين ماتا على الشرك ـ لأجل سعيهما في نقض الصحيفة القاطعة ووصلهما بذلك رحم النبي صلى الله عليه واله ورحم بني هاشم ، الا يكون ذلك المبغض كافرا لبغضه الكافر من هذه الجهة. والحق ان شاء الله تعالى أن حب علي عليه السلام مطلقا علامة لرسوخ الايمان في قلب المحب وبغضه علامة وجود النفاق فيه خصوصية فيه كما هي في أخيه النبي صلوات الله وسلامه عليهما وعلى آلهما. ويؤيد هذا قوله تعالى ( وأنفسنا وأنفسكم ) وقول النبي صلى الله عليه وآله « علي مني وأنا من علي » وما يشابه هذا ، وقد جاء الصحيح عن علي عليه السلام قوله « لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ولو صببت الدنيا بجملتها في حجر المنافق على أن يحبني ما أحبني وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي الامي أنه لايبغضك مؤمن ولايحبك منافق (12). فمن قوله صلى الله عليه واله « لايبغضك مؤمن ولايحبك منافق » (13) يعرف أن اتباع علي عليه السلام محقق للايمان ، واتباعه عليه السلام يرفع المسلم من درجة الاسلام الى درجة الايمان ، إذ الحب ليس إلا المتابعة المطلقة للمحب ( إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله ) . الرضى والشجرة ورضى الله عن الصحابة يوم الشجرة إنما كان بشرط عدم التبديل والانحراف والاحداث ، وقد قيّد الله هذا الرضى بعدم نكث تلك المبايعة بقوله ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) (14) ، فالذي يبدّل ويغيّر ما عاهد عليه الرسول صلى الله عليه واله يقال له كما قال له الرسول صلى الله عليه واله سحقا سحقا. فعن مالك بن أنس قال : ان رسول الله صلى الله عليه واله قال لشهداء أحد : هؤلاء أشهد عليهم ، فقال ابو بكر الصديق : ألسنا يا رسول الله إخوانهم ، أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه واله : بلى ، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي ، فبكى أبو بكر ثم بكى ، ثم قال : أإنا لكائنون بعدك (15). أصحابي كالنجوم وأما رواية « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » فهو حديث ضعّفه وحكم بوضعه عدة من المحدثين والمحققين ، فقد ضعف سنده ابن حجر العسقلاني والبزار (16) والبيهقي ، واحمد بن حنبل وأخيرا الالباني (17) وغيرهم. وقال ابن حزم : فقد ظهر أن هذه الرواية لاتثبت أصلا ، بل لاشك أنها مكذوبة ، لأن الله تعالى يقول في صفة نبيه صلى الله عليه واله ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) فإذا كان كلامه عليه الصلاة والسلام في الشريعة حقا كله وواجبا فهو من الله تعالى بلا شك ، وما كان من الله تعالى فلا يختلف فيه ، لقوله تعالى ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) وقد نهى تعالى عن التفرقة والاختلاف بقوله ( ولا تنازعوا ) ، فمن المحال أن يأمر رسوله باتباع كل قائل من الصحابة رضي الله عنهم ، وفيهم من حلّل الشيء وغيره يحرمه ، ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالا اقتداء بسمرة بن جندب ، ولكان أكل البرد للصائم حلالا اقتداء بأبي طلحة ، وحراما اقتداء بغيره منهم ، ولكان ترك الغسل من الإكسال واجبا اقتداء بعلي وعثمان وطلحة وابي أيوب وأبي بن كعب ، وحراما اقتداء بعائشة وابن عمر ، وكل هذا مروي عندنا بالاسانيد الصحيحة .... فكيف يجوز تقليد قوم يخطئون ويصيبون ؟! (18). ثم قال : فصح ان الاختلاف لايجب أن يراعى أصلا ، وقد غلط قوم فقالوا : الاختلاف رحمة ، واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه واله : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. قال : وهذا الحديث باطل مكذوب من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية : احدها : أنه لم يصح من طريق النقل. والثاني : أنه صلى الله عليه واله لم يجز أن يأمر بما نهى عنه وهو عليه السلام قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسره وكذّب عمر في تأويل تأوله في الهجرة ، وكذب أسيد بن حضير في فتيا أفتى بها في العدة ... فمن المحال الممتنع الذي لايجوز البتة أن يكون عليه السلام يأمر باتباع ماقد أخبر أنه خطأ ، فيكون حينئذ أمر بالخطأ ، تعالى الله عن ذلك وحاشا له صلى الله عليه واله من هذه الصفة ، وهو عليه الصلاة والسلام قد أخبر أنهم يخطئون فلا يجوز أن يأمرنا باتباع من يخطىء (19). وقال الغزالي : فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله ، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة ، وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف ، وكيف يختلف المعصومان ؟ وكيف ؟! وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة ، فلم ينكر ابو بكر وعمر على من خالفهم بالاجتهاد (20). رزية الخميس مصيبة الاسلام واول انشقاق وفتنة عظيمة أدت الى الضلال والانحراف هي رزية الخميس ، فالرزية كل الرزية ـ كما قال حبر الامة وترجمان القران ـ رزية الخميس ، فكل انحراف وكل ضلال مبدأه يوم الخميس ظرف تلك الرزية. فقد أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي صلى الله عليه واله وجعه قال : ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لاتضلوا بعده ، قال عمر : إن النبي صلى الله عليه واله غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال : قوموا عني ، ولا ينبغي عندي التنازع ، فخرج ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه واله وبين كتابه (21). واخرج ايضا بسند آخر عن ابن عباس قال : يوم الخميس وما يوم الخميس !! اشتد برسول الله صلىالله عليه واله وجعه ، فقال : ائتوني اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا : ما شأنه ؟! استفهموه ، فذهبوا لايردون عليه ، فقال : دعوني ، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني أليه ، وأوصاهم بثلاث : اخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، واجيزوا الوفد بنحو ما كنت اجيزهم ، وسكت عن الثالثة ، او قال : نسيتها (22). واخرج مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يوم الخميس ! وما يوم الخميس ! ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت وأخرج بسند ثالث عنه رضي الله عنه قال : لما حُضِرَ رسول الله صلى الله عليه واله وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب : قال النبي صلى الله عليه واله : هلم اكتب لكم كتابا لاتضلوا بعده ، فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه واله غلب عليه الوجع ، وعندكم القران ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قربوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه واله قال رسول الله صلى الله عليه واله كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغط عند النبي صلى الله عليه واله قال رسول الله صلى الله عليه واله قوموا » ( 23 ) والملاحظ أن الذي بدأ بقوله : هجر رسول الله صلى الله عليه واله هو الخليفة عمر بن الخطاب ، إذ القوم انقسموا الى قسمين منهم من يقول : قربوا له الدواة ، وقسم آخر يقول : هجر رسول الله صلى الله عليه واله ، فالمحدثون ـ امناء هذه الأمة ـ اذا ذكروا عمر حرّفوا العبارة ، وسواء كانت العبارة التي صدرت من عمر هي « ان النبي غلب عليه الوجع » أو « هجر الرجل » فالمعنى واحد ، إذ الانسان إذا غلب عليه الوجع يهجر ، فلا يكون قيمة لكلامه. نعم وقع لفظة « غلب عليه الوجع »أهون بكثير من « هجر » ، فهو من قبيل قولنا في المجنون بأنه مصاب بمرض عقلي ، فالنتيجة واحدة ولكن وقع اللفظ على القلب أهون. قال ابن الجوزي : إنما خاف عمر أن يكون ما يكتبه في حال غلبة المرض ، فيجد بذلك المنافقون سبيلا الى الطعن في ذلك المكتوب (24). وهذا غير صحيح : اذ قوله صلى الله عليه واله « لن تضلوا » تنص على أن ذلك الكتاب سبب للامن عليهم من الضلال ، فكيف يكون سببا للفتنة بقدح المنافقين ، فهو صلى الله عليه واله لايقاس به أحد حتى يقال بان نظر عمر بن الخطاب صحيح ونظره صلى الله عليه واله فيه شائبة الاشكال كما هو عليه جُلّ من حاول أن يفسر ويشرح هذا الحديث من أهل السنة والجماعة صونا لعمر بن الخطاب. وإذا كان هناك ملجأ للمنافقين في الطعن في هذا الكتاب ، فالذي فتح لهم باب الطعن هو عمر بن الخطاب ، فلو أن الرسول الاكرم صلى الله عليه واله كتب هذا الكتاب بعد أن سمع هذه الكلمة من عمر والجماعة الموافقة له ، لطعن المنافقون فيه بعد وفاته صلى الله عليه واله ، ولما ميّز المسلمون المنافق العادي من المنافق المحترف والمسلم العادي ، فلو أن عمر بن الخطاب لم يتفوه بهذه الكلمة لكان كل من يتعرض لذلك الكتاب بالغمز والتشهير فقد حكم على نفسه بالنفاق والخروج عن الاسلام ، ومن ثَم ّيعرفه المسلمون ويتجنبونه. مضافا : الى ان المصحح لخلافة عمر هو وصية ابي بكر ، إذ انه في أواخر لحظات حياته أمر عثمان بأن يكتب : أما بعد ، ثم أغشي عليه ، فكتب عثمان من نفسه : أما بعد فقد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، فلما أفاق ابو بكر ، قال : اقرأ ، فقرأ عليه ، فقال : أراك خفت أن يختلف الناس ، قال : نعم ، وأمضاها ابو بكر (25). فأبوبكر أمضى ما كتبه عثمان وهو في حال الاحتضار والغشيان ولم يقولوا هجر أو غلب عليه الوجع ، وكان يحق له أن يوصي وأن يخاف على اختلاف الامة ، أما نبي الرحمة فيواجه بهذه الكلمة القبيحة من قبل عمر بن الخطاب وجماعة من المسلمين ، وحاله لم يكن كحال أبي بكر إذ الفترة بين موته صلى الله عليه واله وبين هذا الحدث خمسة أيام. قال النووي : أما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره ، لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه واله امورا ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها ، لأنها منصوصة ، ولامجال للاجتهاد فيها ، فقال عمر « حسبنا كتاب الله ... » (26). قلت : الله ورسوله أعرف من عمر ومن غيره بعواقب الامور وأشفق من عمر ومن أبي بكر بهذه الامة ، وهو الموصوف في الكتاب الكريم ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ). وقد قطع الرسول الاكرم صلى الله عليه واله بأن هذا الكتاب أمانا من الضلال ، فالشفقة والرحمة تقتضي كتابة هذا الكتاب ، فالحيلولة بين كتابة هذا الكتاب هو الذي أدى الى الضلال والانحراف. وقال عدة من أهل السنة والجماعة أن قوله صلىالله عليه واله « ائتوني » ليس للوجوب وانما هو من باب الارشاد للاصلح (27). هذا كلام في غاية الضعف والسفاهة لامور : 1- أن السعي الى ما يوجب العصمة من الضلال والانحراف لايمكن أن يكون من باب الارشاد لما هو أصلح ومن مستحبات الاعمال ، بل هو من الامور الواجبة. 2- مضافا الى أن استياء النبي صلى الله عليه واله من قولهم ومنعهم لذلك الكتاب كاشف على أنهم قد ارتكبوا أمرا عظيما ، لا أنهم خالفوا امرا إرشاديا مستحبا. 3- أن امر النبي صلى الله عليه واله لهم باحضار الدواة لكتابة الكتاب كان عند الاحتضار ، والمحتضر يكون عادة مشغولا بنفسه وبما يعظم خطره ويعظم شأنه عنده ، ولاسيما مع العلم بالمشقة التي ستحصل له صلى الله عليه واله من كتابة الكتاب ، فالمقام مقام الاوامر الالزامية المهمة ، لامقام الاوامر الارشادية. 4- ان عدّ ابن عباس رحمه الله الحيلولة بين النبي صلى الله عليه واله وبين كتابة الكتاب رزية عظيمة عبر عنها بـ « الرزية كل الرزية » وإن بكاءه بعد انقضاء الحادثة ومضي السنين العديدة عليها ،حتى صارت دموعه تنحدر على خديه كاللؤلؤ ، دليل على أن مخالفة أمر النبي صلى الله عليه واله كان فعلا محرما فظيعا ، وإلا فمن المستبعد أن يعتبر ابن عباس مخالفة الاوامر الارشادية رزية عظيمة يبكي لاجلها (28). المصادر : 1- الحجرات : 14. 2- آل عمران : 31. 3- النساء : 65. 4- آل عمران : 144. 5- صحيح البخاري : 8/150 ، قال في لسان العرب : 11/710 وفي حديث الحوض « فلا يخلص منهم إلا مثل همل النعم » الهمل : ضوال الابل ، واحدها هامل أي الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة. قلت صدق الله تعالى إذ قال ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) و الشاكرون في التاريخ قليل ( وقليل من عبادي الشكور ). 6- صحيح البخاري : 9/58 كتاب الفتن باب 1 ، 8/148 كتاب الرقاق ، باب الحوض. 7- صحيح البخاري : 9/58. 8- صحيح البخاري : 8/149 ، صحيح مسلم : 4/1800 ، مسند أحمد : 3/281 ، 5/48 / 50. 9- صحيح البخاري : 6/69 كتاب التفسير سورة المائدة ، 6/122 سورة الانبياء 8/136 كتاب الرقاق ، صحيح مسلم : 4/2195 كتاب الجنة ، سنن الترمذي 5/321 ، 10- صحيح سنن النسائي للالباني : 3/499 ، مسند أحمد : 1/235 ، 253. 11- الكافي : الروضة. 12- رجال الكشي : 11. 13- العتب الجميل : 41 14- مسند الامام احمد : 6/292 ، وابو نعيم الاصفهاني بعدة أسانيد في حلية الاولياء : 4/185 ، والبيهقي في السنن ، والخطيب البغدادي بعدة أسانيد في تاريخه : 2/255 ، 8/417 ، 14/426 ، والطحاوي في مشكل الاثار : 1/48 عن عمران بن الحصين ، مجمع الزوائد : 9/33 15- الفتح : 10. 16- الموطأ : 236 كتاب الجهاد ، باب الشهداء في سبيل الله حديث 995. 17- تلخيص الحبير : 4/190 18- سلسلة الأحاديث الضعيفة : 1/79 قال : قال احمد : لايصح هذا الحديث كما في المنتخب لابن قدامة : 10/199/2. 19- الإحكام في أصول الأحكام : 6/244. 20- سلسلة الاحاديث الضعيفة للالباني : 1/83 نقلا عن ابن حزم في الإحكام في اصول الاحكام : 5/62. 21- المستصفى في علم الاصول : 1/135. 22- صحيح البخاري : 1/38 كتاب العلم ، باب كتابة العلم رقم 39. 23- صحيح البخاري 6/11 كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه واله ووفاته. 24- صحيح البخاري : 7/155 كتاب الطب ، باب قول المريض قوموا عني رقم 17. 25- فتح الباري : 1/169. 26- تاريخ الطبري : 4/53 ، تاريخ ابن الاثير : 2/207 27- صحيح مسلم بشرح النووي :11/90 28- ارشاد الساري : 1/207 ، فتح الباري : 1/169 نقلا عن القرطبي