أحكام الجهاد
أحكام الجهاد
0 Vote
195 View
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ﴾1. الإشارات والمضامين: 1- حرمة الفرار من وجه العدو: لقيتم: من مادة (اللقاء) بمعنى الاجتماع والمواجهة وتأتي في أكثر الأحيان بمعنى المواجهة في ميدان الحرب2 سواء أكان الكفار هم القادمون إلى المؤمنين، أم كان المؤمنون هم الذاهبون إلى الكفار. زحفاً: الزحف في الأصل بمعنى الحركة إلى أمر ما، بحيث تسحب الأقدام على الأرض كحركة الطفل قبل قدرته على المشي، أو الإبل المرهقة التي تحطّ أقدامها على الأرض أثناء سيرها، وتطلق على الجيش الجرار الذي يشاهد من بعيد وكأنه يحفر الأرض أثناء سيره. ومعنى الآية: يحرم على المؤمنين الفرار من ساحة الحرب حتى لو كان عدوهم قوياً وكثير العدد، وكان عدد المسلمين قليلاً، فللمؤمن مثال بمعركة بدر في ذلك3. 2- فلسفة حرمة الفرار من وجه العدو: قال الإمام الرضا عليه السلام في بيان علّة وفلسفة حرمة الفرار من وجه العدو: "وحرّم الله تعالى الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة عليهم السلام، وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة لهم على إنكار ما دُعُوا إليه من الإقرار بالربوبية، وإظهار العدل، وترك الجور، وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين وما يكون من السبي والقتل وإبطال دين الله عزَّ وجلّ وغيره من الفساد"4. قال الله تعالى: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾5. هذه الآية تكملة لما ورد من أحكام في الآية السابقة. توضيح المعاني: ﴿مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ﴾: بأن يخدع العدو، ويوهمهم أنه ينسحب من المعركة لينصب لهم كميناً. ﴿مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ﴾: الالتحاق بجماعة من المقاتلين المسلمين لأنهم بحاجة إلى نصرته. الإشارات والمضامين: 1- الفرار من وجه العدو من الذنوب الكبيرة وموجب لسخط الله: الفرار من الجبهة من الذنوب الكبيرة وفي هذه الآية أوجب الله للفارّ من الزحف القهر والعذاب6. والمهزوم يريد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه من الهلاك، لكنّ الله يعاقبه على ذلك بأن يجعل عاقبته التي يصير إليها هي دار الهلاك والعذاب في جهنّم، أي إنّه جُوزِيَ بعكس غرضه من معصية الفرار7. 2- جواز الانسحاب التكتيكي في ساحة القتال: استُثني موردان في الفرار من وجه العدو لا حرمة فيهما، أي إنّ الفرار من وجه العدو حرام، إلا في موردين، والموردان هما: الأول: ﴿مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ﴾ ومعناه أن يذهب المقاتل من مكان إلى مكان أفضل لجهة القتال عن طريق خدع العدو وإيهامه بفراره على الظاهر، وعندها يحمل عليه. والثاني: ﴿مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ﴾ عند فقدان المقاتل القدرة على قتال العدو، وللحصول على القدرة اللازمة يقوم بالالتحاق بفئة من قومه ليقاتل معهم8. قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ 9. اتّفق المفسّرون على أنّ هذه الآية نزلت بعد واقعة بدر تُعاتب أهل بدر، لأنّهم أخذوا أسرى، واقترحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يقتل الأسرى ويأخذ منهم الفداء حتى يتفوّقوا على العدوّ من الناحية المادية، ويُصلحوا أمورهم10. توضيح المعاني: ﴿يُثْخِنَ﴾: يشتد القتل ويكثر. ﴿عَرَضَ الدُّنْيَ﴾: متاع الدنيا. الإشارات والمضامين: 1- منع أخذ الأسرى قبل السيطرة الكاملة على العدو: الأسرى جمع أسير، والإثخان معناه القوّة والشدّة. وعلى هذا التقدير يكون معنى عبارة ﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ أي حتى يستقر دينه ويشتد ويثبت11. وهنا أمور ينبغي إيضاحها: أولاً: أن السنّة الجارية في الأنبياء الماضين عليهم السلام أنّهم كانوا إذا حاربوا أعداءهم وظفروا بهم، ينكّلون بهم بالقتل، ليعتبر به مَنْ ﴿وَرَاءهُمْ﴾، فيكفّوا عن محادّة الله ورسوله. وكانوا لا يأخذون الأسرى حتى يثخنوا في الأرض، ويستقرّ دينهم بين الناس، عندها لا مانع من الأسر، ثم المنّ أو الفداء12. ثانياً: أن المهاجرين والأنصار في بدر، وعلى قاعدتهم في الحروب، أقدموا على أخذ الأسرى للاسترقاق أو الفداء، وكان الرجل منهم يقي أسيره من الناس أن ينالوه بسوء إلا علي عليه السلام فقد أكثر من قتل الرجال ولم يأسر، ولم يرد في الروايات بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد شارك المهاجرين والأنصار، او استشارهم، أو رضي بالأسر، فنزلت الآية لتقول لمن شارك في الأسر، ولعامة المسلمين ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ﴾ ولم يُعْهد في سنّة الله في أنبيائه ﴿أَن يَكُونَ لَهُ﴾ أسرى، أو يحقّ له أن يأخذ ﴿أَسْرَى﴾، ويستدرّ على ذلك شيئاً، ﴿حَتَّى يُثْخِنَ﴾ ويغلظ ﴿فِي الأَرْضِ﴾ دينه ويستقر بين الناس، ﴿تُرِيدُونَ﴾ أنتم معاشر أهل بدر، - خطاب وعتاب لمن شارك في أسر المشركين لأجل الفداء -، ﴿عَرَضَ الدُّنْيَ﴾ ومتاعها السريع الزوال، ﴿وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ بتشريع الدين، والأمر بقتال الكفار13. فهذه الآية تُنبّه المسلمين إلى مسألة عسكرية حساسة وهي أنّه لا يجب التفكير بأخذ الأسرى قبل الهزيمة الكاملة للعدو، لأنّ الانشغال بأخذ الأسرى ونقلهم إلى المكان المناسب يشغل المقاتلين عن الهدف الأصلي للقتال، ويمكن أن يسمح للعدو الجريح بأن يُجدِّد هجومه14. 2- جواز أخذ الأسرى بعد السيطرة الكاملة على العدو: عبارة ﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ تدل على أن المسلمين لا يمكنهم أن يباشروا بأسر الأعداء، إلاّ بعد حصول السيطرة الميدانية على العدو - كما اتّضح قبل قليل -. 3- عدم السعي للأسر بهدف الحصول على الفدية ومال الدنيا: المراد من ﴿عَرَضَ الدُّنْيَ﴾ مال الدنيا، لأنّه بمعرض الزوال. والخطاب ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَ﴾ هو لغير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين ممن شارك في عملية أسر المشركين، - كما أوضحنا سابقاً -، لأنهم رغبوا في أخذ الفداء من الأسرى15. والخطاب توجّه لجميع المقاتلين، لكون أكثرهم متلبّسين باقتراح الفداء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم16. 4- الهدف الأساسي من تشريع الجهاد حصول المجاهدين على المواهب الأخروية والمنافع المعنوية17: المسألة الأساسية في القتال في الإسلام هو الحصول على رضا الله وتقوية الحق ونجاة المستضعفين، وليس جمع الغنائم وأخذ الأسرى وافتداؤهم بالمال18. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾19. سبب النزول: قال بعض المفسّرين، إنّ هذه الآية نزلت عندما خرج أبو سفيان من مكة، فأتى جبرائيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا. قال: فكتب إليه رجل من المنافقين: إن محمداً يُريدكم فخذوا حِذْرَكُم، فأنزل الله هذه الآية. وقال آخرون أنّها نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنصيحة يهود قريظة، فأتاهم، قالوا: ما ترى يا أبا لبابة أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: إنّه الذبح فلا تفعلوا. فأتاه جبرائيل عليه السلام، فأخبره بذلك20. الإشارات والمضامين: 1- إفشاء الأهداف والاسرار العسكرية للعدو خيانة لله، وللرسول وللمؤمنين: كان بعض المسلمين يُفشون أموراً من أسرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم المكتومة عن المشركين، فنهى الله تعالى عن هذا الأمر، وعدَّه خيانة لله والرسول والمؤمنين21. 2- النهي عن إفشاء الأسرار للعدوّ: النهي في ﴿لاَ تَخُونُو﴾، فيه دلالة على المنع وحرمة الخيانة لله وللرسول وللمؤمنين. ومن أبرز مصاديق الخيانة إفشاء الأسرار العسكرية - بناءً على ما ذُكِر من أسباب النزول-. وعلى هذا التقدير يكون إفشاء الأسرار العسكرية للعدوّ ممنوعاً وحراماً. 3- حثَّ المسلمين وتشجيعهم على عدم إفشاء الأسرار للعدو: المراد بقوله: ﴿وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، أنّكم تخونون الأمانات التي التزمتم بحفظها، وأنتم تعلمون أنّ كشفها يعود بالضرر عليكم، إذ يؤدي إلى ضعف المسلمين، وانفضاح خططهم العسكرية أمام الأعداء، وأيُّ عاقل يُقدم على خيانة أمانة نفسه والإضرار بما لا يعود إلاّ إلى شخصه، فتذييل النهي بقوله ﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، لتهييج العصبية الحقّة، وإثارة قضاء الفطرة في هذا الأمر22. * كتاب آيات الجهاد، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. 1- سورة الأنفال، الآية: 15. 2- تفسير الأمثل، ج5، ص 382. 3- م. س، ج5، ص 382. 4- تفسير نور الثقلين، ج3، ص 26. 5- سورة الأنفال، الآية: 16. 6- تفسير نور، ج 4، ص 303. 7- تفسير المنار، ج 9، ص 617. 8- تفسير الميزان، ج 9، ص 37 وتفسير مجمع البيان، ج 3، ص 813. 9- سورة الأنفال، الآية: 67. 10- تفسير الميزان ، ج 9، ص 134. 11- م. س. تفسير الميزان ، ج 9، ص 134. 12- م. ن، ج 9، ص 135. 13-تفسير الميزان، ج 9، ص 136. 14- تفسير نمونه، ج 7، ص 244 (تفسير الأمثل). 15- تفسير مجمع البيان، ج 3، ص 858. 16- تفسير الميزان، ج 9، ص 136. 17- تفسير راهنما، ج 6، ص 562. 18- تفسير نور، ج 4، ص 380. 19- سورة الأنفال، الآية: 27. 20- تفسير مجمع البيان ج 3، ص 823 - 824. 21- تفسير الميزان، ج 9، ص 54-55. 22- تفسير الميزان، ج 9، ص 55.