فلسفة الجهاد

  قال الله تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾1. هذه الآية وبعض سابقاتها تشير إلى أحداث معركة طالوت، أول ملوك بني إسرائيل، مع جالوت، وهو جبّار من القبط سلّطه الله على بني إسرائيل بعد أن رفضوا طاعة نبيّهم، وعملوا المعاصي، وغيّروا دين الله - وفي هذه الحرب انتصر جيش طالوت الصغير، - ولكنه كان صاحب همّة -، على جيش جالوت الجرّار بإذن الله، وقُتِل فيها جالوت على يد داود الشاب، الذي كان في عداد جيش طالوت. الإشارات والمضامين: 1- هزيمة الكفّار وانتصار المؤمنين متعلّقان بالإذن الإلهي: وتعني الآية أنّ هزيمة أتباع جالوت وكذلك انتصار أتباع طالوت تحقّقا بإذن الله2، وكأن الله أراد أن يظهر قدرته في المورد حيث إنّ الملك العظيم، والجيش الجرار لطالوت لم يستطيعا الوقوف أمام شاب مراهق مسلح بسلاح ابتدائي، ويقاتل في جيش صغير وقليل العدد3. 2- حضور الشباب ودورهم في القتال: روى علي بن إبراهيم القمّي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله أوحى إلى نبيهم (بني إسرائيل)، أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى، وهو رجل من ولد لاوي بن يعقوب، واسمه داود بن إيشا،- وكان إيشا راعياً، وكان له عشرة بنين أصغرهم داود-، فلمّا بعث الله طالوت إلى بني إسرائيل، وجمعهم لحرب جالوت، بعث إلى إيشا بأن أحضر وُلْدك، فلما حضروا دعا واحداً واحداً من ولده، فألبسه درع موسى، فمنهم من طالت عليه، ومنهم من قصرت عنه، فقال لإيشا: هل خلّفت من ولدك أحداً؟ قال: نعم أصغرهم، تركته في الغنم يرعاها، فبعث إليه، فجاء به، فلما دُعي أقبل ومعه مقلاع... وكان داود شديد البطش، شجاعاً، قوياً في بدنه، فلما جاء إلى طالوت، ألبسه درع موسى، فاستوت عليه، قال: فجاء داود فوقف بجانب جالوت، وكان جالوت على الفيل وعلى رأسه التاج، وفي جبهته ياقوتة تلمع نوراً، وجنوده بين يديه فأخذ داود حجراً فرمى به في ميمنة جالوت، ووقع عليهم، فانهزموا، وأخذ حجراً آخر فرمى به في ميسرة جالوت، فانهزموا، ورمى بالثالث إلى جالوت فأصاب موضع الياقوتة في جبهته، ووصلت إلى دماغه، ووقع إلى الأرض ميتاً"4 هذه الرواية تُظهر دور داوود الشاب، - الذي وصل لاحقاً إلى الملك والنبوة-، في الحرب وهزيمة العدو. 3- أثر استهداف قيادة العدو في تحقيق النصر: يمكننا أن نفهم من جملة ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ﴾، أنّ استهداف قيادة العدو يساهم بشكل كبير في تحقيق النصر5. 4 - فلسفة الجهاد والدفاع: إن فلسفة الجهاد في الإسلام الوقاية من الفساد والإفساد. والمراد من الفساد في الأرض، الفساد في المجتمع الإنساني، وذلك بأن يقوم فرد أو جماعة بالإضرار الآخرين وبمصالحهم، أو العمل ضد مقررات الشريعة السماوية، أو الاعتداء على الأعراض، وسلب الأموال بغير وجه حق، والاعتداء والاستيلاء على أراضي الآخرين وتخريب مجتمعاتهم، ولهذا شرّع الله الجهاد دفاعاً عن كل ذلك6، بهدف الأمر بالمعروف وكل ما يفيد المجتمعات، والنهي عن المنكر وكل ما يوجب إضراراً بالآخرين وبمجتمعاتهم. 5- قانون الدفاع، تَفضُّل إلهي: الدفاع مقابل المعتدي وإسقاط الظالم تفضُّلٌ من الله تعالى7. قال الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾8. توضيح المعاني: ﴿صَوَامِعُ﴾: أمكان العبادة عند اليهود، والمسيحيين، والمسلمين. الإشارات والمضامين: 1- إخراج المسلمين من مكّة وظلم المشركين لهم: تبيّن هذه الآية السبب الذي أدّى إلى تشريع الجهاد ضد الكفّار والمشركين، من خلال ذكر أحد مصاديق هذا التشريع في مقطع زمني معيّن زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث إنّ المشركين أخرجوا المسلمين الأوائل من ديارهم بمكّة بغير حقّ، وآذوهم وبالغوا في إيذائهم، وتشدّدوا في تعذيبهم حتى دفعوهم إلى الهجرة من مكّة، والتغرّب عن الوطن، وترك بعضهم الديار إلى الحبشة، وآخرون إلى المدينة بما عُرف بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم9. 2- حماية المعابد والمراكز الدينية: لولا الوجود الدائم للفئة المؤمنة ووقوفها في وجه المفسدين ومنهم المشركين والمستكبرين على مرّ الزمن، لتمّ تخريب بيوت الله تعالى (الصوامع، والكنس، والكنائس، والمساجد) التي يُذكر فيها اسم الله كثيراً10. 3- الوعد الإلهي القاطع بنصرة المجاهدين: في هذه الآية قَسَمٌ مع تأكيد بالغ على نصر الله تعالى من ينصره بالقتال دفاعاً عن الدين الإلهي، والمعنى: "أقسم لينصرنّ الله من ينصره بالدفاع عن دينه، إنّ الله لقوي لا يضعفه أحد ولا يمنعه شيء عمّا أراد"11. 4- حكم الدفاع في الشرائع السابقة: يُستفاد من الآية وجود حكم الدفاع في الشرائع السابقة بشكل عام وإن لم تُبيَّن كيفيته12. قال الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾13. من أهم فلسفة تشريع الجهاد في الإسلام، امتحان المؤمنين، ومعرفة المجاهدين منهم والصابرين، والدليل على ذلك قوله تعالى:﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾14، وقوله تعالى و﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾15. الإشارات والمضامين: 1- الابتلاء للتمييز بين مدعي الإيمان والمؤمن الحقيقي: فقوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ...﴾، أي حسبتم أن الجنة مكتوبة لكم، وأنكم لا تبتلون بالغلبة عليكم لمجرد كونكم إلى جانب الحق. نعم، الحق لا يغلبه شيء واقعاً، ولكن كونكم منحازين إلى جانب الحق، لا يعني أنكم سوف تكونون الغالبين دائماً، وأنكم لن تنهزموا، فلا ملازمة واقعية بين القضيتين، وادعاء الملازمة بينهما هو ظن خاطئ، فقد تبتلون، وفيما أنتم فيه قد تبتلون بالهزيمة، ليميز الله الخبيث من الطيب، وصاحب الإيمان الظاهري عن الإيمان الحقيقي، لأن الجنة هي لمن يستحقها، والدرجات الرفيعة هي للمجاهدين والصابرين حقيقة، فلا يستوي من وقف إلى جانب الحق وانهزم في أرض المعركة مع من وقف إلى جانب الحق وصمد في أرض المعركة وخصوصاً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُحُدُ16. 2- الجهاد ساحة اختبار لمعرفة المجاهدين الصابرين: نَصْبُ الفعل "يعلم" بأداة النصب "أن المقدّرة" دلالة على أنّ الواو في ﴿وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ هي حرف عطف وهذا يعني أنّ معيار اختبار أهل الإيمان هو الجهاد المتلازم مع الصبر17، ثمّ إن امتحان الجهاد هو من أجل أن يُعرف المجاهد الصابر في أهل الأرض، وليس أن الله أراد معرفته، لأنّ الله يعلم كل شيء قبل وقوعه. 3- الجهاد المتلازم مع الثبات معبر الدخول إلى الجنة: "أم حسبتم" معناه: "أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بلا جهاد متلازم مع الصبر"18؟، وعليه: فإنّ الله تعالى ينفي الظنّ وافتراض دخول الجنة بلا جهاد وصبر، ومعناه أنّ الجهاد المتلازم مع الصبر هو الطريق للوصول إلى الجنّة. * كتاب آيات الجهاد، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. 1- سورة البقرة، الآية 251. 2- تفسير راهنما، ج2، ص 195. 3- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 2، ص 229. 4- تفسير مجمع البيان، ج 1-2، ص 620. 5- تفسير راهنما، ج 2، ص 195. 6- تفسير الميزان، ج 2، ص 293 - 294. 7- تفسير نور، ج 1، ص 497. 8- سورة الحج، الآيتان: 39-40. 9- تفسير الميزان، ج 14، ص 384. 10- تفسير الميزان، ج 14، ص 595. 11- م. ن، ج 14، ص 386. 12- م. س، ج 14، ص 386. 13-سورة آل عمران، الآية 142. 14-سورة التوبة، الآية 16. 15- سورة محمد، الآية 31. 16-تفسير الميزان، ج4، ص 30. بتصرف. 17- التفسير الكبير، ج 9، ص 19. 18- تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 846.