المراجعات
المراجعات
(0 الأصوات)
(0 الأصوات)
المراجعات
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة ـ وإهداء هذه صحف لم تكتب اليوم، وفِكَر لم تولد حديثاً وإنما هي صحف انتظمت منذ زمن يربو على ربع قرن، وكادت يومئذ أن تبرز بروزها اليوم، لكن الحوادث والكوارث كانت حواجز قوية عرقلت خطاها، فاضطرتها إلى أن تكمن وتكنّ، فتريثت تلتمس من غفلات الدهر فرصة تستجمع فيها ما أخَّرت طبعها، ومسّت وضعها. أما فكرة الكتاب فقد سبقت مراجعات سبقاً بعيداص، إذ كانت تلتمع في صدري منذ شرخ الشباب، التماع البرق في طيات السحاب، وتغلي في دمي غليان الغيرة، تتطلع إلى سبيل سوي يوقف المسلمين على حد يقطع دابر الشغب بينهم، ويكشف هذه الغشاوة عن أبصارهم، لينظروا إلى الحياة من ناحيتها الجدية، راجعين إلى الأصل الديني المفروض عليهم، ثم يسيروا معتصمين بحبل الله جميعاً، تحت لواء الحق إلى العلم والعمل، إخوة بررة يشد بعضهم أزر بعض. لكن مشهد هؤلاء الإخوة المتصلين بمبدأ واحد، وعقيدة واحدة، كان ـ وأسفاه ـ مشهد خصومة عنيفة، تغلو في الجدال، غلو الجهال، حتى كأن التجالد في مناهج البحث العلمي من آداب المناظرة، أو أنه من قواطع الأدلة! ذلك ما يثير الحفيظة، ويدعو إلى التفكير، وذلك ما يبعث الهمَّ والغمّ والأسف فما الحيلة؟ وكيف العمل؟ هذه ظروف ملمة في مئين من السنين، وهذه مصائب محدقة بنا من الأمام والوراء، وعن الشمال وعن اليمين، وذاك قلم يلتوي به العقم أحياناً، وتجود به الأطماع أحياناً أخرى، وتدور به الحزبية تارة، وتسخره العاطفة تارة أخرى، وبين هذا وذاك ما يوجب الارتباك فما العمل؟ وكيف الحيلة؟ ضقت ذرعاً بهذا وامتلأت بحمله همَّا، فهبطت مصر أواخر سنة 1329 مؤمَّلاً في «نيله» نيل الأمنية التي أنشدها، وكنت ألهمت أني موفق لبعض ما اريد ومتصل بالذي أداور معه الرأي، وأتداول معه النصيحة، فيسد الله بأيدينا من «الكنانة» سهماً نصيب به الغرض، ونعالج هذا الداء الملح على شمل المسلمين بالتمزيق، وعلى جماعتهم بالتفريق، وقد كان ـ والحمد لله ـ الذي أملت، فإن مصر بلد ينبت العلم، فينمو به على الإخلاص والإذعان للحقيقة الثابتة بقوة الدليل؛ وتلك ميزة لمصر فوق مميزاتها التي استقلت بها. وهناك على نعمى الحال، ورخاء البال، وابتهاج النفس، جمعني الحظ السعيد بعلم من أعلامها المبرزين بعقل واسع، وخلق وادع، وفؤاد حي، وعلم عليم ومنزل رفيع، يتبوأه بزعامته الدينية، بحق واهلية. وما أحسن ما يتعارف به العلماء من الروح النقي، والقول الرضي، والخلق النبوي، ومتى كان العالم بهذا اللباس الأنيق المترف، كان على خير ونعمة، وكان الناس منه في أمان ورحمة، لا يأبى أحد أن يفضي إليه بدخيلة رأيه، أو يبثه ذات نفسه. كذلك كان علم مصر وإمامها، وهكذا كانت مجالسنا التي شكرناها شكراً لا انقضاء له ولا حد. شكوت إليه وجدي، وشكا إليَّ مثل ذلك وجداً وضيقاً، وكانت ساعة موفقة أوحت إلينا التفكير فيما يجمع الله به الكلمة، ويلم شعث الأمة، فكان مما اتفقنا عليه أن الطائفتين ـ الشيعة والسنة ـ مسلمون يدينون حقاً بدين الإسلام الحنيف، فهم فيما جاء الرسول به سواء، ولا اختلاف بينهم في أصل أساسي يفسد التلبس بالمبدأ الإسلامي الشريف، ولا نزاع بينهم إلا ما يكون بين المجتهدين في بعض الأحكام لاختلافهم فيما يستنبطونه من الكتاب أو السنّة، أو الإجماع أو الدليل الرابع، وذلك لا يقضي بهذه الشقة السحيقة، ولا يتجشم هذه المهاوي العميقة، إذن أي داع أثار هذه الخصومة المتطاير شررها منذ كان هذان الاسمان ـ سنَّة وشيعة ـ إلى آخر الدوران. ونحن لو محصنا التاريخ الإسلامي، وتبينا ما نشأ فيه من عقائد وآراء ونظريات، لعرفنا أن السبب الموجب لهذا الاختلاف إنما هو ثورة الأمة لعقيدة، ودفاع عن نظرية أو تحزّب لرأي، وأن أعظم خلاف وقع بين الأمة، اختلافهم في الإمامة؛ فإنه ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة، فأمر الإمامة إذن من أكبر الاسباب المباشرة لهذا الاختلاف، وقد طبعت الأجيال المختلفة في الإمامة على حب هذه العصبية، وألفت هذه الحزبية، بدون تدبر وبدون روية، ولو أن كلاًّ من الطائفتين نظرت في بينات الأخرى نظر المتفاهم لا نظر الساخط المخاصم، لحصحص الحق وظهر الصبح لذي عينين. وقد فرضنا على أنفسنا أن نعالج هذه المسألة بالنظر في أدلة الطائفتين، فنفهمها فهما صحيحاً، من حيث لا نحسن إحساسنا المجلوب من المحيط والعادة والتقليد، بل نتعرى من كل ما يحوطنا من العواطف والعصبيات، ونقصد الحقيقة من طريقها المجمع على صحته، فنلمسها لمساً، فلعل ذلك يلفت أذهان المسلمين، ويبعث الطمأنينة في نفوسهم، بما يتحرر ويتقرر عندنا من الحق، فيكون حدّاً ينتهى إليه إن شاء الله تعالى. لذلك قررنا أن يتقدم هو بالسؤال خطاً عما يريد، فأقدم له الجواب بخطي على الشروط الصحيحة، مؤيداً بالعقل أو بالنقل الصحيح عند الفريقين. وجرت بتوفيق الله عز وجل على هذا مراجعاتنا كلها، وكنا أردنا يومئذٍ طبعها لنتمتع بنتيجة عملنا الخالص لوجه الله عز وجل، ولكن الأيام الجائرة، والأقدار الغالبة اجتاحت العزم على ذلك؛ «ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي». وأنا لا أدَّعي أن هذه الصحف صحف تقتصر على النصوص التي تألفت يومئذ بيننا، ولا أن شيئاً من ألفاظ هذه المراجعات خطه غير قلمي، فإن الحوادث التي أخّرت طبعها فرّقت وضعها أيضاً ـ كما قلنا ـ غير أن المحاكمات في المسائل التي جرت بيننا موجودة بين هاتين الدفتين بحذافيرها مع زيادات اقتضتها الحال، ودعا إليها النصح والإرشاد، وربما جرَّ إليها السياق على نحو لا يخل بما كان بيننا من الاتفاق. وإني لأرجو اليوم ما رجوته أمس: أن يحدث هذا الكتاب إصلاحاً وخيراً، فإن وفق إلى عناية المسلمين به، وإقبالهم عليه فذلك من فضل ربي، وذلك ما أرجوه من عملي، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وإني لاهدي كتابي هذا إلى أولي الألباب من كل علاّمة محقق، وبحّاثة مدقق، لابس الحياة العلمية فمحّص حقائقها؛ ومن كل حافظ محدث جهبذ حجة في السنن والآثار، وكل فيلسوف متضلع في علم الكلام، وكل شاب حي مثقف حر قد تحلل من القيود وتملص من الأغلال، ممن نؤملهم للحياة الجديدة الحرة، فإن تقبله كل هؤلاء واستشعروا منه فائدة في أنفسهم، فإني على خير وسعادة. وقد جهدت في إخراج هذا الكتاب، بنحت الجواب فيه على النحو الأكمل من كل الجهات، وقصدت به إلهام المنصفين فكرته وذوقه، بدليل لا يترك خليجة، وبرهان لا يدع وليجة، وعنيت بالسنن الصحيحة والنصوص الصريحة، عناية أغنى بها هذا الكتاب عن مكتبة حافلة مؤثلة بأنفس كتب الكلام والحديث والسير ونحوها، مما يتصل بهذا الموضوع الخطير، بفلسفة معتدلة كل الاعتدال، صادقة كل الصدق، وبأساليب تفرض على من المَّ به أن يسيروا خلفه وهم ـ أعني منصفيهم ـ له تابعون، من أوله إلى الفقرة الأخيرة منه، فإن ظفر كتابي بالقرّاء المنصفين فذلك ما أبتغيه، وأحمد الله عليه. أما أنا فمستريح والحمد لله إلى هذا الكتاب، راضٍ عن حياتي بعده، فإنه عمل كما أعتقد يجب أن ينسيني ما سئمت من تكاليف الحياة الشاقة، وهموم الدهر الفاقرة، وكيد العدو الذي لا أشكوه إلا إلى الله تعالى، وحسبه الله حاكماً، ومحمد خصيماً، ودع عنك نهباً صيح في حجراته، إلى ما كان من محن متدفقة كالسيل الآتي من كل جانب، محفوفة بالبلاء مقرونة بالضيق والاكفهرار، إلا أن حياتي الخالدة بهذا الكتاب حياة رحمة في الدنيا والآخرة، ترضى بها نفسي، ويستريح إليها ضميري، فأرجوا من الله سبحانه أن يتقبل عملي، ويتجاوز عن خطأي وزللي، ويجعل أجري عليه نفع المؤمنين وهدايتهم به «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم، دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين» . الإمام عبدالحسين شرف الدين الموسوي قدس سره